في مواجهةٍ جادةٍ هي الأولى في قوتها ولهجتها وخطواتها العملية خرجت علينا بريطانيا وفرنسا وكندا في بيانٍ ثلاثي يندد بتوسيع مستوطنات الضفة، واستمرار حرب غ زة، وتجويع الفلسطينيين. ويطالب بوقف تلك الحرب، والتي بلغت حدًّا لا يمكن قبوله أو السكوت عليه. وفعلًا أوقفت بريطانيا اتفاقية جديدة للتجارة الحرة مع إس رائيل. ورغم أن هذا الإجراء جاء بعد قرابة 60 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، ونيران المجاعة التي يكتوي منها أهلنا هناك، حد تحذير الأمم المتحدة بأن نحو 14 ألف طفل يواجهون خطر الموت خلال 48 ساعة إذا لم يتلقوا المساعدة. تلك المجاعة والمجا زر والتي يشاهدها العالم بأم عينيه، ورأي ماكرون بعضها في مستشفى العريش، إلى غير ذلك من فظائع وأهوال تُرتكب بحق الفلسطينيين ولم تعد خافية على أحد. والغريب أن إس رائيل لم تندد بهذا البيان الثلاثي وحسب وإنما راحت تصبّ جام غضبها على حلفيتها الإستراتيجية بريطانيا. بريطانيا صاحبة وعد بلفور، والذي مكنها من أرض فلسطين، والذي لولاه لما تم لها ذلك أبدًا. بل، في دليلٍ على خستها ونذالتها ونكرانها لكل جميلٍ ومعروف، ولكل يد كان لها فضلٌ عليها، راحت تتهكم من بريطانيا قائلةً: لقد ولّى زمن الانتداب البريطاني منذ 77 عامًا. بل، وصفت موقفها بالمخزي. لنخلص إلى أن كلّ بلفور في عمر هذا الك يان سيكون جزاؤه، إن خرج عليه ولو نصحًا، جزاء سِنمّار. وهو ما يدركه يقينًا كلّ بلفور حتى تاريخه.
لكن، أين كان هذا البيان قبل شهرٍ وشهرين، وستة أشهر، وسنةٍ وأكثر وأطفال غزة يموتون جوعًا وبردًا وخوفًا وفزعًا؟! أين كان هذا البيان وأطفال غزة يلتحفون الأمطار ويفترشونها؟! أين كان هذا البيان وجسور أسلحة تلك الدول وغيرها إلى الكيان لا تنتهي رغم قرار التوقيف بحق النتن وجالانت من الجنائية الدولية؟! أين كان هذا البيان وقرارات الأمم المتحدة المنددة بج رائم الك يان هناك ليل نهار؟! أين كان هذا البيان … ؟! أكانت تلك الدول في حاجةٍ إلى أكثر من 60 ألف شهيد، ومجاعة بحق 2 مليون فلسطيني، و14 ألف طفل ينتظرهم الموت لمنع المساعدات عنهم، وتدمير كامل القطاع وغير ذلك حتى يخرجوا علينا بمجرد بيانٍ، داسه النتن بحذائه قبل أن يجف مداده؟! بل، أبعد من ذلك، وفي تحدٍّ سافرٍ للقانون الدولي، راح يطلق رصاصه على بعثةٍ دبلوماسية دولية، من سفراء عرب وأوربيين، في جنين.
هذا البيان لا أراه سوى محاولةٍ بائسة ويائسة لاسيما من بريطانيا بلفور لغسل يديها الملطخة بدماء الفلسطينيين. هذا البيان لا أراه سوى بيان إدانة لتلك الدول ولغيرها ممّن سكتوا، بل موّلوا وساعدوا الك يان حتى وصلوا بأنفسهم إلى قناعةِ ارتكابه جرائم لم يعد بمقدروهم السكوت عليها، أو غض الطرف عنها، كما كان حالهم معها دومًا. ودليل ذلك أن باقي الاتفاقيات والشراكات بين الك يان وتلك الدول -لاسيما بريطانيا- وغيرها لا تزال قائمة مفعلة.
وبعيدًا عن ذلك كله إلا أن التقدير كله والتوقير لمَن كان مناصرًا -وفي خطواتٍ ملموسةٍ على الأرضٍ- للحق الفلسطيني، رغم استفزازت الك يان لها، لإسبانيا حكومةً وشعبًا. ويكفيك أن تشاهد تلك الفرحة التي كان عليها أعضاء البرلمان الإسباني أول أمس الثلاثاء لحظة إقرارهم قرارًا يُحظر بموجبه تصدير السلاح، وكل ما يمكن استخدامه عس كريًّا، إلى الك يان. وهنا أُعيدُ نشر مقالةٍ لي كانت في 11يوليو 2024م بعنوان: ” بيدرو، لا فضّ فوك !!! بيدرو سانشيز رئيس وزراء إسبانيا وفي اجتماعٍ للناتو في واشنطن أمس الأربعاء وفي خطابِ فارسٍ نبيلٍ يطالب الغرب بعدم اتباع سياسة الكيل بمكيالين في حربي غ زة وأوكرانيا، معتمدًا المنطق السليم في رأيه المحترم هذا: ” إذا قلنا لشعبنا إننا ندعم أوكرانيا لأننا ندافع عن القانون الدولي فيتعيّن علينا أن نفعل الشيء نفسه في غ زة، وإذا كنا نطالب باحترام القانون الدولي بأوكرانيا فيجب علينا أيضًا أن نطالب باحترامه في غ زة “. قالها لهم وبينما شحنات السلاح الأمريكية وغيرها لق تل أطفال الفلسطينيين ونسائهم وشيوخهم على أشدها.
سانشيز المحترم لم يكتف بهذا وإنما كان مدافعًا دومًا عن الحق الفلسطيني ضد الهجمة البربرية الصه يوأمر يكية دون أن تفتُر عزيمته في ذلك لحظةً وحتى تاريخه، بدءًا من مؤتمره الصحفي عند معبر رفح دعمًا لها. وثانيًا قاد حملة للاعتراف بفلسطين دولة على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية كُلّلت باعتراف ثلاث دول أوربية ( إسبانيا والنرويج وأيرلندا ) في لحظةٍ واحدة وفي تنسيقٍ بديعٍ استثنائي نزل كصاعقة السماء على قفا الص هاينة، وصفعة لم تُفلح معها تهديدات واستفزازات الك يان لثلاثتهم. وتمنع حكومته كذلك عبور سفينة شحن محملة بالمت فجرات (27 طنًّا) كانت متجهة إلى الك يان مايو الماضي. وشعبيًّا نرى مدرب كرة القدم الإسباني (جوارديولا) يمتنع عن مصافحة صه يوني في حفل منصة تكريم.
وبعيدًا عن أيّةِ تحليلاتٍ سياسيةٍ في الأمر أو توجّهاتٍ إلا أنني ولعاطفةٍ تملؤني دومًا تجاه إسبانيا حلقتُ بعيدًا لِسَبْر أغوار ذلك الموقف النبيل، وتلمّس أسبابه ليس لبيدرو وحده وإنما لإسبانيا حكومةً وشعبًا، وقلت في نفسي لعله ورغم تباعد الزمان بقرونٍ والمكان بآلاف الكيلومترات بعضُ ثمار غِراس أمّتنا الطيّب في إسبانيا ولعقودٍ ثمانية، لعله جميلُ صنيعٍ لأمتنا تناقلته نطفُ الرجال وأرحامُ النساء جيلًا بعد آخر لنتعلقَ به اليوم تعلق الغريق وكما يُقال بقشّةٍ، وقد عزّ الناصر والمغيث واستوحش اللص وعربد، لعله حنينُ كلٍّ منّا لاشعوريًّا للآخر لحُسن عِشرةٍ وجوارِ وقُربى مدةَ قرونٍ من الزمان.
بيدرو لك ولجوتيريش ورامافوزا وكريم خان ورئيس أيرلندا والنرويج وكل أحرار العالم رسميًّا وشعبيًّا أفرادًا ومؤسساتٍ التقدير كله والتوقير”.
ومع كل ما تقدم، ولأننا أمة لا تملك الفعل، بفعل فاعلٍ؛ فإننا ومن منظور إستراتيجيّ، نثمّن هذا البيان، ونقبله، وندعو للبناء عليه، بل نقبل كل بيانٍ وقرارٍ يفضح هذا الو حش البر بري، ويجعله منبوذًا كالبعير الأجرب.