يشهد الفضاء الرقمي المصري في الآونة الأخيرة معركة غير تقليدية، حيث تصاعدت الحملات الإعلامية المعادية التي تستهدف الدولة المصرية عبر أدوات غير مسبوقة، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي سلاحًا جديدًا بيد هذه المنصات، التي نجحت في تطوير أدوات تضليل رقمي متقدمة تستغل ضعف الوعي التقني لدى البعض لتحقيق أهداف سياسية وأمنية خطيرة.
لم تعد هذه الحملات مجرد شائعات تقليدية أو مقالات ملفقة، بل تحولت إلى إنتاج افتراضي متقن يوظف أحدث تقنيات التزييف الرقمي، ليُقدَّم للجمهور على أنه محتوى حقيقي وصادق، مما يضاعف تأثيره ويشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي والسيادة الوطنية المصرية.
شخصيات مصنوعة وصور مزيفة لتزييف الواقع
من أبرز أدوات هذه الحملات استخدام شخصيات افتراضية صُنعت بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي، يدَعي مطوروها أنها لضابط سابق يوجهون رسائل تحريضية ضد الدولة المصرية، وتستند هذه الشخصيات إلى أساليب متقنة من محاكاة ملامح الوجه ونبرة الصوت وحركات الجسد، مما يجعل كشف زيفها أكثر صعوبة على المتلقي العادي.
لم تتوقف الحملات عند هذا الحد، بل شملت أيضًا تسجيلات صوتية مفبركة نُسبت إلى عناصر أمنية في إحدى مراكز الإصلاح والتأهيل، جرى التلاعب بها رقميًا لترويج روايات كاذبة عن أوضاع المحتجزين، كما أنتجت صور مزيفة توثق أحداثًا غير حقيقية مثل مزاعم اختفاء طفل في سيناء، واختلقت تفاصيل مؤثرة عن تعرضه للاختطاف والحرمان من التعليم، في محاولة لاستدرار عواطف الرأي العام المحلي والمنظمات الحقوقية الدولية.
تضخيم إعلامي مدروس وضغط خارجي منظم
تعتمد هذه الحملات على أسلوب ممنهج يقوم على نشر المحتوى المزيف عبر مئات الحسابات الوهمية والصفحات المجهولة، التي تتبادل إعادة النشر والتعليق والتفاعل بشكل مكثف لإيهام المتابعين بوجود موجة دعم شعبي واسعة. وتستغل هذه الشبكات منصات التواصل الاجتماعي والخوارزميات الرقمية لضمان وصول هذه المواد إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، بما يشمل شرائح غير معتادة على التحقق من صحة المعلومات.
كما يتم استغلال هذا المحتوى في تقارير بعض المنظمات الحقوقية، واستخدامه كأداة ضغط على الدولة المصرية في المحافل الدولية، خاصة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان. وتكشف بعض الدراسات أن هذه الحملات غالبًا ما تكون مدعومة بتمويل خارجي، وتدار من غرف عمليات إعلامية تابعة لتنظيمات سياسية وإرهابية معادية للدولة.
تطور خطير في أدوات التضليل الرقمي
التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي مكّن هذه الجهات من إنتاج محتوى شديد الواقعية يصعب على الجمهور أو حتى الخبراء التمييز بينه وبين الحقيقة. تقنيات “التزييف العميق” باتت قادرة على صناعة فيديوهات وصوتيات تحاكي شخصيات حقيقية بدقة مذهلة، مما يعقد مهمة كشف التضليل.
وتشير التقديرات الأمنية إلى أن خطورة هذه الحملات لا تتوقف عند حدود التأثير الإعلامي، بل قد تتطور إلى عمليات حرب سيبرانية متكاملة تستهدف البنية الرقمية للدولة المصرية، بما يشمل الهجمات الإلكترونية على المؤسسات السيادية أو تسريب معلومات مغلوطة بشكل يربك الداخل ويشوه صورة مصر خارجيًا.
أهداف استراتيجية لضرب الثقة والاستقرار
تهدف هذه الحملات إلى تحقيق عدة غايات استراتيجية؛ أهمها إضعاف الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة السيادية، وتشويه صورة مصر أمام الرأي العام الدولي، وإيجاد فجوة بين الشعب والدولة يمكن استغلالها في إحداث اضطرابات سياسية وأمنية.
وتوضح تحليلات مراكز الدراسات المتخصصة أن هذه الحملات تمثل امتدادًا لحروب الجيل الرابع والخامس التي تستهدف الدول من الداخل عبر أدوات ناعمة، بعيدًا عن المواجهة العسكرية المباشرة، مما يجعلها أكثر خطورة على المدى الطويل.
ضرورة التحرك الاستباقي
وأرى – بصفتي باحثًا متخصصًا في دراسات الإرهاب والتطرف – أن مواجهة هذه التهديدات تتطلب انتقال الدولة من مرحلة رد الفعل إلى استراتيجية وطنية شاملة تقوم على عدة ركائز أساسية:
أولاً، تطوير قدرات متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي الدفاعي لرصد وكشف المحتوى المزيف بسرعة وفعالية، قبل انتشاره وتضخيمه.
ثانيًا، بناء تحالفات قوية مع الشركاء الدوليين والمنظمات التقنية العالمية، لتبادل الخبرات وتوحيد الجهود في مواجهة الاستخدام العدائي للتقنيات الرقمية.
ثالثًا، إطلاق برامج توعية شاملة تستهدف المجتمع المصري بمختلف فئاته، لتعزيز مهارات التحقق من المعلومات ومكافحة الأخبار الكاذبة.
رابعًا، دعم الإعلام الوطني وتمكينه من إنتاج محتوى احترافي قادر على مواجهة الدعاية المعادية بفاعلية وكشف أهدافها للرأي العام.
إن نجاح هذه الإستراتيجية يعتمد بالأساس على وعي المواطنين وقدرتهم على التمييز بين الحقيقة والتزييف، وهو ما يشكل خط الدفاع الأول ضد هذه الحملات، ويمنع محاولات زعزعة الثقة في مؤسسات الدولة السيادية.
بناء درع وطني لمواجهة التضليل الرقمي
إن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الإعلامية المعادية يمثل تحديًا استراتيجيًا غير مسبوق للأمن القومي المصري، ومع استمرار تطور أدوات التضليل، يصبح من الضروري الإسراع في بناء منظومة وطنية متكاملة قادرة على التصدي لهذه الموجات من التضليل الرقمي، وحماية استقرار الدولة وسيادتها في عصر المعلومات.
….
باحث متخصص في دراسات الإرهاب والتطرف