اوضح المستشار الدكتور طارق منصور – خبير استراتيجيات الحرب والأمن القومي أن بين الجبال الصامتة والصحارى الممتدة، ترقد واحدة من أعقد المنشآت العسكرية وأكثرها غموضًا: “مدن صاروخية” كاملة تحت الأرض، حيث الحديد يئن، والخرسانة تُسكب كأنها تُشيد لعالم ما بعد القيامة.
تحت أعماق الأرض الإيرانية، تتوارى ترسانة عسكرية صُممت لتكون عصية على الاستهداف، تضم مراكز قيادة مقاومة للهجمات النووية والإلكترونية، مزوّدة بشبكات اتصال مشفّرة لا تعتمد على الأقمار الصناعية، بل على موجات أرضية بعيدة المدى. ليست هذه مجرد تحصينات عسكرية، بل رسالة استراتيجية مشفّرة إلى العالم: “اضربوا إن استطعتم، فنحن لا نتأثر ولا نُفنى.”
لقد أثبتت التجارب الميدانية أن تدمير هذه المنشآت أو تعطيلها مهمة شبه مستحيلة، حتى بالنسبة لأكثر الجيوش تقدمًا تقنيًا. وها هي اليوم، بعد ساعات من وقف إطلاق النار، تستعد لجولة جديدة من الصراع، فـ”الصهيوني لا عهد له ولا وعد”.
الاختباء في عمق الجغرافيا
في هذه المدن، تختلط التكنولوجيا بالصمت، وتُخزّن آلاف الصواريخ بعيدة المدى، القادرة على تنفيذ ضربات متتالية خلال ساعات أو أيام دون الحاجة لإعادة تحميل. وبينما كانت العواصم الكبرى منهمكة في المفاوضات والضغوط، كانت طهران تراكم قوتها في أعماق الأرض، بعيدًا عن أعين الأقمار الصناعية والطائرات المقاتلة.
بدلاً من عرض صواريخها في قواعد مكشوفة، أنشأت إيران شبكة أنفاق هائلة تمتد لمئات الكيلومترات تحت سلاسل الجبال، من زاغروس غربًا حتى كرمان وهرمزغان شرقًا، بما يعزز عنصر المفاجأة ويجعل الهجوم على هذه القواعد عملية معقدة ومرهقة لأي خصم، دون ضمان النجاح.
تضم هذه المدن منصات إطلاق متحركة، ومعدات دفاع جوي متطورة، وصواريخ باليستية ومجنحة، بعضها مزوّد برؤوس شديدة الانفجار، وأخرى تتمتع بقدرات توجيه دقيقة، وصواريخ فرط صوتية ما زال العالم يتلمّس حدود فعاليتها.
وأكد الدكتور طارق منصور أن هذه المدن لم تكن مجرد دعاية عسكرية، بل واقع فعلي أثبتته المقاطع المصوّرة التي بثها التلفزيون الإيراني، والتي أظهرت صواريخ ضخمة تُنقل داخل أنفاق تحت الأرض، عبر سكك حديدية وطرق ممهدة، ما يوفّر مرونة كبيرة في الإطلاق وتعددًا في الاتجاهات. كل ذلك بهدف تضليل الدفاعات الجوية المعادية وإرباك أنظمة الاعتراض.
حين أخرجت الجبال أثقالها
في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الإيراني-الإسرائيلي، انفجرت السماء فوق فلسطين المحتلة بموجات من الصواريخ المتنوعة، أطلقت من أعماق الجبال الإيرانية، في مشهد غير مسبوق.
هذه الضربة لم تكن مجرد رد عسكري عابر، بل إعلان عن تحول استراتيجي في قواعد الاشتباك، ودخول إيران في مواجهة مباشرة من أراضيها ضد عدوها التقليدي. ولأول مرة، كُشف عن صواريخ انطلقت من عمق يزيد عن 100 متر تحت سطح الأرض، ما يعكس تطورًا هائلًا في تكتيكات التخزين والإطلاق والتمويه.
لم تعد الترسانة الإيرانية تعتمد فقط على الكم، بل طوّرت طهران أنظمة توجيه دقيقة تعتمد على الأقمار الصناعية وتقنيات INS وGPS، مما يمنح صواريخها قدرة على إصابة أهداف عسكرية واستراتيجية بدقة متناهية.
ورغم افتخار إسرائيل بمنظوماتها الدفاعية متعددة الطبقات – “حيتس”، و”مقلاع داوود”، و”القبة الحديدية”، بالإضافة إلى المنظومات الأمريكية مثل “ثاد” و”آرو” – إلا أن الواقع الميداني كشف فشل بعضها في اعتراض صواريخ بالغة السرعة والمناورة، ما أدى إلى خسائر بشرية ومادية في مواقع عسكرية، وخلق حالة ذعر في العمق الإسرائيلي، لا سيما في بئر السبع والنقب الأوسط.
الردع من باطن الأرض: تحوّل استراتيجي
تشكل “مدن الصواريخ” الإيرانية أحد أعمدة استراتيجية الردع الحديثة، والتي يمكن تسميتها بـ”الردع من باطن الأرض”. الهدف منها حرمان العدو من القدرة على توجيه ضربة استباقية تقضي على القدرات الصاروخية الإيرانية. إنها ليست فقط مستودعات أسلحة، بل رسائل سياسية واضحة مفادها أن طهران تستطيع الرد في أي لحظة، ومن مواقع غير مرئية.
ورغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل تمتلكان تقنيات متقدمة لاختراق التحصينات، فإن العمق الجغرافي والتعقيد الهندسي لهذه المدن يُصعّب المهمة، حتى في ظل الضربات الدقيقة. فانتشارها الواسع وطبيعتها الجبلية يحوّلان أي هجوم محتمل إلى مغامرة مكلفة ذات جدوى محدودة.
سباق تسلح… وقلق متصاعد
الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، تتابع بقلق هذه التطورات. وقد أثبتت التجربة أن القواعد الأمريكية والمنظومات الغربية الموجودة في المنطقة لا توفر الحماية الكافية. الأمر الذي دفع إلى زيادة الإنفاق الدفاعي وتحديث أنظمة الاعتراض مثل “ثاد” و”باتريوت”.
أما إسرائيل، فتنظر إلى هذه القدرات كتهديد مباشر، خاصة في ظل العلاقة الوثيقة بين الحرس الثوري وفصائل مسلحة في لبنان وسوريا واليمن.
الختام: السيف الذي خرج من غمده
يختم الدكتور طارق منصور تحليله بالقول: ما كان يُخزّن في سراديب الجبال، بات الآن جزءًا من معادلة الردع فوق الأرض. لقد خرجت الصواريخ الإيرانية من سكونها الجبلي، لتخترق السماء وتعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.
لم تعد إيران مجرد لاعب تقليدي في ميدان التوازن العسكري، بل أصبحت قوة صاروخية يحسب لها ألف حساب. هذه القوة التي نمت في السر والعلن، باتت سيفًا معلقًا على رقاب خصومها، الذين يدركون اليوم أن أي مغامرة عسكرية ضد إيران قد تفتح أبواب الجحيم… من تحت الجبال.