عاجل
الأثنين. يونيو 9th, 2025

سعيد الخولى يكتب : حكاية صورة فى ورشة كوستا

العالم الآنالعالم الآن 30, ديسمبر 2023 21:12:30

 

من أقدارى التى لا أنساها بداية حياتى العملية على محورين فى ذات اليوم هنا وهناك؛ففى اليوم الأول لى بأخبار اليوم على سبيل التدريب بعقد مؤقت قبل التعيين كان مسار ثان أبدأ فيه فى ذات اليوم لدى مكتب اسمه ميوزيك يملكه ويديره شخص لبنانى يدعى برنار.كان ذلك يوم الاثنين الموافق 7أغسطس 1985.
وقبل المشاعر والأحاسيس التى كانت تسيطر علىّ يومذاك فالرقمان الجديران بالتسجيل هما المقابل الذى تناولته لقاء العمل بالأخبار والمكتب اللبنانى ميوزيك؛الأخبار كانت المكافاة التى تم تحديدها لى حتى يحين التعيين عبارة عن 55جنيها شهريا،أما فى ميوزيك فالمقابل كان يحسب بالساعة وحسب عدد الساعات الشهرية التى يعملها كل فرد كان يتحدد المبلغ الإجمالى الذى يتقاضاه،وللصدفة القدرية كان سعر الساعة لى 55قرشا.وكان كل من المكافأة وسعر الساعة هما الرقم الأعلى بالنسبة للبداية هنا وهناك.
وهنا أستعيد قليلا بعض ذكرياتى عن مكتب ميوزيك اللبنانى وطبيعة عمله،فصاحب المكتب كما ذكرت كان مشهورا باسم برنار الأسطى ـ وفى مسمى ثان برنارد كوستا ـ وكان نموذجا لبنانيا شائعا للشطارة والفهلوة اللبنانية .كان المكتب متخصصا فى النشر والطبع ،متعدد المجالات مابين النشر للكتب وأشهرها آنذاك سلسلة روايات الجيب التى كان يعاد نشرها والترجمة لكتب أجنبية يعاد نشرها مترجمة إلى العربية،تقريبا فى كل المجالات أدبية وعلمية وطبية وفنية.وكان أيضا يصدر مجلة فنية اسمها”ألحان”ومجلات طبية اسمها “عيادتى” و”الشفاء” و”صحتى”كانت تعتمد على المترجمات الطبية والاستشارات من الأطباء العاملين بالمكتب ترجمة وتأليفا .ومجلات رياضية مختلفة من بينها “عالم الرياضة” و”كمال الأجسام”و”المصارعة الحرة”..كان يشرف على المكتب ويديره فى غياب برنار شخص اسمه يوسف توفيق كان شماسا فى كنيسة قبل ان يتفرغ للعمل بعيدا عن الكنيسة وكان يجيد العربية والترجمة من الإنجليزية ويتولى مراقبة العمل طوال اليوم شخص يدعى كامل جيد،وشتان الفارق بين ذكاء الأول وكياسته فى العمل وتحسس الدقة فى التعامل وبين تخلى الثانى عن كل ذلك وتعامله بمنطق التاجر “الخائب”الذى لايعنيه سوى الإحساس بالمكسب حتى لو كان يخسر فى الواقع.
ولاأنسى نظرية برنار صاحب المكتب وهو يحكى لنا عما كان يفعله فى مزرعتهم بالضيعة التى يمتلكونها فى لبنان وهو يتابع الأنفار بتكليف من أبيه أثناء جمعهم للفراولة والبرتقال هناك؛كان يحكى لنا فى إحدى الحفلات التى كان ينظمها للموظفين لديه فى رأس السنة الميلادية أنه لاحظ انهم يتناولون كمية من المحصول بعد جنيه فى الذهاب وفى العودة بالأقفاص المليئة بالفاكهة ،وأنه حذرهم كثيرا فكانوا يخضعون للتحذير فترة ثم مايلبثون أن يعاودوا “الطفاسة”على استحياء فلم يجد غير الحيلة طريقة لإلهائهم عن هذه الخسارة فقد طلب منهم التسابق فى الغناء واختيار أجمل صوت من الصبيان ومن الفتيات ليتبادلا الغناء بأغنيات من التراث أو أغانى فيروز أو وديع الصافى أو عبد الحليم حافظ أو فهد بلان .وكان يقوم هو باختيار الأغنيات التى تتطلب ترديدا من الجموع على طريقة الكورس وراء مطرب أو مطربة،وهكذا كان يضمن انشغال الصبى أو الفتاة بتجويد غنائهما والاستحواذ على إعجاب الباقين ، وفى نفس الوقت يستمتع الباقون بغنائهما وينشغلون بالتركيز فى العمل والترديد وراء من يغنى دون نشاز!
وكأنى بمسابقات الغناء والمواهب الجديدة التى تملأ الشاشات الفضائية حاليا والتى يبرع فى تدبيجها اللبنانيون والإنفاق عليها من رءوس أموال ومؤسسات موجهة هى ستار من قبيل نظرية برنار لإلهاء الشغيلة عن الفوز بنصيب مما يجمعون ويذهب المحصول سالما غانما للآكلين والحاصدين الكبار ولايفوز الشغيلة إلا بحلو الغناء والترديد الجماعى وسط الهتيفة والمطبلين.وفعلا كان برنار بمنزلة “الأسطى”.
كان برنار يمارس هذا العمل فى مصر وهو يحمل كما علمنا عدة جنسيات أولاها اللبنانية ثم السورية والفرنسية وأضاف إليها البعض اليونانية،وأغدق البعض فى وصفه بما هو اخطر من حمل جنسيات متعددة،وكان المبرر الوحيد لنشاطه بمصر هو الحرب الأهلية فى لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلى لها عام 1982وكانت حرب الشوارع تغطى بيروت ورغم ذلك كانت المطابع هناك تعمل بأقصى طاقتها والحرب دائرة رحاها لا تتوقف.بل كانت حركة الطباعة تتقدم كل الدول العربية تقريبا وكانت الطباعة بالألوان حديثة عهد نسبيا بالصحافة المصرية،بل إن كثيرا من المجلات الفنية ذات الطباعة باللوان كانت تطبع فى لبنان وكانت كل مطبوعات برنار لحسابه وحساب غيره تجرى طباعتها هناك حيث كان يتم إعدادها تحريريا وإخراجيا بالمكتب ثم تسافر مايسمى فى عالم الصحافة ب”الماكيتات” لتتم الطباعة فى بيروت ثم يعاد شحنها من هناك إلى شركات التوزيع بالبلاد العربية المختلفة،ومن بينها مجلة “ألحان” ثم مجلة “السينما والناس”وكان لى معهما مشوار رغم أنفى طال لقرابة العشرين عاما.فما تمنيت يوما أن أرتبط بالصحافة الفنية لكنها كانت رابطة قوية رغم أنفى دخلتها مرغما وتركتها أيضا ـ للغرابة ـ مرغما.
وكانت اللقطتان مع برنار ثم فريق من الزملاء الذين عملوا معى خلال تلك الفترة بمكتب ميوزيك ثم تفرقت بنا السبل إلا الصديق الغالى الدكتور يسرى عبدالعال الذى رافقنى بعدها بالعمل فى مجلة آخر ساعة خمسة عشر عاما حيث انتقلت للأخبار بينما ظل هو فى آخر ساعة حتى بلوغه سن المعاش منذ قرابة عامين.
وككل الورش الفنية التى تقدم صناعات يدوية هناك الأسطى الذى يتلقى صبيانا جددا لتعليمهم أصول الصنعة ـ تلقانى فى ورشة التجميل وإعادة الصياغة فى مجلة “ألحان” من استغربت وقتها لأنه من يقوم بهذا العمل فى المجلة،وهو عمل قوامه الموهبة والدراسة اللغوية الكافية،وقد كنت أرانى وقتها مهيأ لذلك.أما الأسطى الذى وجدتنى فجأة مساعدا وتلميذا له فكل ما عرفته وقتها أنه شاعر يحمل درجة البكالوريوس فى الزراعة!نعم لقد استغربت فى بادئ الأمر المؤهل الزراعى البحت وكيف ينتج شاعرا ،بل كيف يمكنه إنتاج طبيب تجميل لمواد قوامها اللغة ومفرداتها وقواعدها الجامدة التى يشكو صعوبتها دارسوها أنفسهم.كات تعجبى قاصرا وقتها ولم أدرك قصوره إلا بعدها بفترة، فقد أغفلت فيه الموهبة وحجمها حين يطغى على أى دراسة ويرأب صدع علاقة صاحبه بدقائق اللغة وأسسها..هادئ القسمات وردود الأفعال.دائم الابتسام بلا تكلف,جميل الهندام فى غير إسراف.يحمل أدوات الجمال بين أصابعه من عدة أقلام متعددة الألوان وفى عقله من مفردات شديدة الجمال والبساطة.يكتب بأناقة ويلون بعض السطور إذا ما أراد التفريق بين سؤال وجواب أو عنوان وكلام عادى،ينهى آخر ورقة بتوقيع بديع للاسم الذى التصق بالذاكرة وصاحبه الذى التصق بركن الحب فى بطين القلب. كان يوقع باسمه:عباس الصهبي،بالياء المنقوطة على غير عادة المصريين فى الكتابة الذين لايكتبون الياء المنقوطة مثل الشوام والخليجيين.ورغم قصر المدة التى تعاملنا فيها معا وتعلمت منه كيف تكون أناقة الروح سببا رئيسيا فى إبداع العمل بحب وإتقان.
الشاعر الكبير المبدع عباس الصهبى زاملته أعواما قليلة لا تتجاوز العامين لكنه لم يغادر القلب ولا الذاكرة بعد أن رافقتنى أستاذيته بعد ذلك وسرت فى طريق آخر بعيدا عنه طوال ثلاثين سنة حتى جمعت بيننا الأقدار ثانية منذ أربعة أعوام فى أمسية ثقافية..فما وجدته إلا كما عرفته واستمر على هيئته فلم تزده السنوات إلا في الحب والعطاء ولم تنقص منه يد الدهر جمال الروح ولو لم يطاوعها الجسد، ففيه تجسيد لبيت المعرى الشهير”وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام “..


#حكاية صورة #دفتر ذكريات زمان #ذكريات الشتاء ايام زمان #ذكريات القرية #ذكريات جميلة #ذكريات زمان واهل زمان #ذكريات لا تموت #سعيد الخولى

اخبار مرتبطة