في صمت ثقيل، ووسط رفوف شبه خاوية في الصيدليات، تتجلى واحدة من أعقد الأزمات التي عرفها القطاع الصحي في مصر خلال السنوات الأخيرة: أزمة نقص الدواء.
ما بين اختفاء أصناف حيوية، وصراع مفتوح بين شركات الدواء والحكومة، تقف صحة المواطن على حافة أزمة متجددة تُوصف بأنها “حرب خفيّة”، لا يُرى فيها سوى ضحاياها: مرضى القلب والسكر والضغط والسرطان، وحتى الرُضّع.
أرقام تتكلم: سوق دوائي مضطرب
تشير التقديرات الرسمية إلى أن حجم سوق الدواء المصري تخطى 300 مليار جنيه سنويًا (نحو 6 مليارات دولار). ورغم وفرة الإنتاج المحلي (يمثل 91% من الاستهلاك)، فإن أكثر من 150–300 صنف دوائي عانى نقصًا شديدًا، وفقًا لبيانات نقابة الصيادلة وهيئة الدواء المصرية.
ويتحدث متخصصون عن فجوة وصلت إلى أكثر من 1000 صنف دوائي خلال ذروة الأزمة بين عامي 2023 و2024، تشمل أصنافًا حيوية لا غنى عنها لعشرات الآلاف من المرضى يوميًا.
قائمة النقص: أسماء أدوية غابت في لحظة حرجة
الصيدليات شهدت نقصًا حادًا في أدوية غاية في الحساسية، من بينها:
• الأنسولين ومشتقاته (بأنواعه)
• Eltroxin (للغدة الدرقية)
• Depakine (لأمراض الصرع)
• Cystone، Entresto، Mestinon، Cervitam، Cerebrolysin
• أدوية الضغط والجلطات مثل Capoten وConcor وBlokium Duo
• مضادات حيوية ومسكنات شائعة مثل Curam، Brufen، Megafen
• حقن البنسلين طويلة المفعول
• لبن الأطفال مثل Similac، Hero Baby، Bebelac
• مكملات غذائية مثل Centrum وSeven Seas
تعددت النواقص، واتسعت الفجوة، وتحوّل اقتناء دواء بسيط إلى “رحلة عذاب يومية” لملايين الأسر.
لماذا اختفى الدواء؟ حرب تسعير وصراع دولار
أزمة الدواء ليست عرضًا مؤقتًا، بل نتيجة تراكمات معقّدة:
1. أزمة الدولار: معظم المواد الخام تُستورد بالدولار، وقد ارتفع سعره من ~31 إلى 48 جنيهًا، ما ضاعف تكلفة التصنيع.
2. تأخر الإفراجات الجمركية: تعطلت شحنات دوائية قيمتها تتجاوز 37 مليون دولار داخل الموانئ، بسبب نقص العملة الصعبة.
3. تسعير حكومي صارم: الحكومة تمنع رفع الأسعار إلا بموافقة رسمية، ما جعل عشرات الشركات تتوقف عن الإنتاج أو تخفض طاقتها لتجنب الخسارة.
4. دور الدولة في التوزيع: تعاظم دور “الهيئة المصرية للشراء الموحد” والصندوق السيادي أثار مخاوف وظنون بعض المصنعين والموزعين من هيمنة بيروقراطية تُبطئ حركة السوق.
انسحابات وتكهنات: هل سحبت فايزر أدويتها؟
سادت شائعات قوية حول انسحاب شركات كبرى مثل Pfizer من السوق المصري. الحقيقة أن الشركة سحبت عالميًا دواء Oxbryta (لعلاج فقر الدم المنجلي) في سبتمبر 2024 لأسباب تتعلق بالسلامة والآثار الجانبية، وليس بسبب السوق المصري تحديدًا.
ورغم ذلك، يبقى التخوف من انسحاب بعض العلامات التجارية قائمًا إذا استمرت أزمة التسعير ونقص العملة.
وبالتالي مازال القلق قائماً ..
ماذا فعلت الدولة؟ وهل انتهت الأزمة فعلًا؟
في مواجهة الغضب الشعبي وتفاقم الأزمة، اتخذت الدولة عدة إجراءات منها:
• ضخّ 7–10 مليارات جنيه لدعم شركات الأدوية.
• السماح برفع أسعار مجموعات محددة بنسبة تراوحت بين 15–50%.
• تسريع الإفراجات الجمركية، وتقليص فترة الموافقة على تسجيل الأدوية.
• الإعلان عن تراجع النقص إلى أقل من 2% من الأصناف بنهاية فبراير 2025، بحسب هيئة الدواء.
لكن مراقبين يؤكدون أن الانفراجة الجزئية لا تعني انتهاء الأزمة، بل تهدئة مؤقتة قد تعود في أي لحظة ما لم تُحلّ جذور المشكلة.
إلى أين نذهب؟ هل الأزمة مستمرة؟
كل المؤشرات تقول إن خطر أزمة الدواء لا يزال قائمًا. طالما ظلّت هناك فجوة بين تكلفة الإنتاج وسعر البيع، وبين الاعتماد على الاستيراد والتصنيع المحلي، فإن السوق ستظل رهينة تقلبات الدولار والبيروقراطية الحكومية.
الحل لا يكمن فقط في ضخ الأموال، بل في:
• إصلاح آلية التسعير
• تشجيع التصنيع المحلي للمشتقات النادرة
• تسهيل إجراءات الاستيراد
• إقامة شراكات استراتيجية طويلة الأمد مع الشركات العالمية
الخلاصة: صحة المواطن ليست ساحة مساومات
الدواء ليس سلعة تحتمل المساومة، ولا ورقة في معادلة اقتصادية جامدة. الأزمة الأخيرة يجب أن تكون درسًا قاسيًا لكنه حاسم في إعادة بناء استراتيجية وطنية للدواء، تضمن للمريض المصري حقه في العلاج، وللشركة المصنعة حقها في الاستمرارية.
الدواء أمن قومي… وإن لم ندرك ذلك الآن، فالمواطن سيدفع الثمن لاحقًا، وبأقسى الطرق.