منذ كرري، ظللنا دوماً نردد الهتاف للمعارك الخاسرة، ونحوّل الدماء المسفوكة إلى أهازيج مجدٍ زائف، أكثر من جعل العقل منارةً، أوالنجاحات القليلة جسوراً للبناء. لم نتوقف لحظةً عند المحاسبة، ولم نسائل أنفسنا. لماذا تُهدر الأرواح بلا حساب أولى ولا تقدير استراتيجي، بينما قدّم لنا التاريخ درساً بليغاً في معركة مؤتة، حين ابتكر خالد بن الوليد خطته الباهرة، فحوّل الهزيمة المحققة إلى انسحابٍ منظم أنقذ به ما تبقى من الجيش، وصنع من الفطنة العسكرية مجداً أعظم من صليل السيوف؟. فما بالنا نغنّي للدموع أكثر مما نصغي للعقل؟ وما سرّ هذه العلاقة الغريبة بيننا وبين الألم؟ لماذا نصنع من البطولات المغلوبة أساطير نلوكها، بينما نُقصي لحظات الحكمة التي كان يمكن أن تفتح لنا طريقاً آخر؟ هل لأن العنف صار جزءاً أصيلاً من وجداننا، أم لأننا نخشى العقل حين يضع مرآته أمام عوراتنا، فيفضح هشاشتنا الداخلية؟ أم أن الوعي لم يجرؤ بعد على اقتحام تلك الزوايا العمياء فينا، حيث يتربص بنا تاريخٌ مثخن بالانكسارات، يكرر نفسه كلما أعرضنا عن الدرس وتركنا العقل خلف ظهورنا؟.
لماذا نميل في خطابنا الجمعي إلى تحويل الهزيمة إلى بطولة، ونُلبس سوء التقدير رداء الشجاعة؟ فنروي حكاية الأبطال الذين اندفعوا إلى نيران المستعمر كما لو كانت ملحمةً متكاملة، بينما في جوهرها مأساة تاريخية ضاع فيها جهد الرجال وغاب عنها حسن التدبير، واختلطت فيها العاطفة الجيّاشة بغياب الرؤية الاستراتيجية. لماذا نُجمّل مشهد مواجهة اليقين الأعمى لذلك التفوق العسكري الساحق، ونحوّله إلى نشيدٍ يتوارثه الأبناء جيلاً بعد جيل؟ كان هناك إيمان صلب لا يتزحزح، لكنه ظلّ إيماناً معزولاً عن الواقع، لا تسنده معرفة بالسلاح الجديد ولا وعي بخبرة العدو وتكتيكاته. لم تكن المشكلة في البطولة ذاتها، فالبطولة قيمة إنسانية رفيعة، ولكن الخلل في تحويل الفقد إلى أنشودة، والهزيمة إلى هوية. حتى غدت الذاكرة الجمعية مسكونة بالدم أكثر مما هي متطلعة إلى العقل والبصيرة. المأساة الحقيقية ليست في سقوط الأجساد وحدها، بل في سقوط الوعي الذي يصرّ على أن يرى في المذبحة نصراً مؤجلاً، وفي الانكسار مجداً خالداً، وفي العاطفة المجرّدة بديلاً عن البصيرة.
يبدو أن العنف، في تجربتنا، لم يكن مجرد وسيلة للمقاومة، بل تحوّل في لحظات كثيرة إلى لغة للتعبير عن الذات، بل إلى هوية غير معلنة. نثور بعنفٍ مفرط، ونقاوم باندفاعٍ جارف، ثم لا نلبث أن ننهار فجأة، كأن البناء فعلٌ نخشاه، وكأن الصبر فضيلة لا تليق بنا. ربما لأننا اعتدنا أن نقرأ التاريخ كجراح مفتوحة لا كمسارٍ متدرج للتطور. غير أن السؤال الأكثر إلحاحاً. هل العنف جزء من تكويننا النفسي والاجتماعي العميق؟ أم أنه قُدِّر لنا بفعل ظروف تاريخية فاستسلمنا له حتى أدمناه؟ إن تاريخ السودان، إذا تأملناه بعمق، ليس سوى طبقات متراكمة من العنف المركب. استعماري يفرض سلطته، طائفي يقسم الولاءات، جهوي يمزق النسيج، وعسكري يخنق السياسة. ومع كل ذلك، لم نفلح بعد في بناء وعي جمعي يجرّم العنف من جذوره، ويجعل من الحوار والعقل والتفكير النقدي أساساً للنهضة، لا مجرد شعارات تُرفع ساعة الأزمات.
لسنا أمة بلا عقل، ولسنا شعباً خُلِق مغيَّباً بطبعه، لكننا عشنا زمناً طويلاً في كنف أنظمةٍ وتعليمٍ وخطابٍ ثقافيٍّ لم يُشجّع العقل على أن يمارس حقه في السؤال والتفكير. نشأنا على خوفٍ من التفكير الحر، وعلى توجّسٍ من النقد، حتى صارت العاطفة والموروث مقدَّسين. فقد سادت ثقافة الترضية عوضاً عن التحليل، وصار الرمز الأسطوري بديلاً عن الزعيم المحاسَب. وأُشيع أن من يخالف الإجماع عدوّ، ومن يكثر من الأسئلة متفلسف، ومن يتروّى في قراراته متخاذل. هكذا غاب العقل، لا لأنه ضعيف في جوهره، بل لأننا لم نمنحه المساحة الكافية ليشتغل بحرية، أو لأننا خشينا من تلك المرآة التي يضعها أمامنا، والتي قد تعكس التشوه المتراكم في أعماقنا.
ثمة أماكن في داخلنا عمياء، عصيّة على نور الوعي، لا يصلها بسهولة. هناك، يتربّع التاريخ المشوَّه بكل رواسبه، وتستوطن الطائفية بانقساماتها، ويتكاثر الاستعلاء الاجتماعي بأقنعته الخفية، وتُطلّ “العقلية الغيبية التي تفسّر كل حدث بالقدر، لتُسقط عن النفس عبء المسؤولية، وتغلق أمامها أبواب المحاسبة. لم يبلغ الوعي بعدُ تلك الأعماق المظلمة، لأن الوعي لا يُولَد في ساحات الخطب ولا يزدهر في شعارات اللحظة؛ بل يتشكّل عبر التربية المتينة، والنقد الذاتي الشجاع، والتعليم النوعي الذي يحرّر العقول بدل أن يستنسخها، والإعلام المسؤول الذي يضيء بدل أن يضلل، ويفتح نوافذ الضمير والعقل معاً ليتهوّى ما تراكم في الداخل من غبار القرون.
لسنا أعداء أنفسنا، ولسنا ضحايا على إطلاق القول. إنما نحن بشر نحاول أن نجد في الهزيمة ما يخفف قسوتها، فنغني لها لتصير أسطورة تهدهد جراحنا، وتحوّل العجز إلى بطولة. غير أنّ الزمن قد حان لنتوقف عن ترديد أناشيد الانكسار، ونشرع في صناعة ما يليق بالفخر حقاً، تاريخاً لا يحتاج إلى تزييف، وإنجازاً لا يورث الخجل، بل يورث الثقة بأن هذه الأرض قادرة على أن تُنتج حياةً تستحق أن تُعاش. لم يعد السؤال اليوم. كيف نثور؟ بل أصبح. كيف نفكّر قبل أن نثور؟ وكيف ندير ما يليها من تحولات؟ حين نكرّم العقل بنفس القداسة التي منحناها للدم، وحين نربّي أبناءنا على فضيلة النقد كما ربّيناهم على الولاء، وحين نقرأ التاريخ لا بعين الحنين الأعمى، بل ببصيرة التصحيح والتجاوز، عندها فقط نكفّ عن الغناء للهزيمة، ونشرع في صياغة نشيد جديد. نشيد الوعي، حيث تكون البطولة عقلاً يبني بقدر ما يكون دماً يضحّي.
إن التحدي الأكبر أمامنا اليوم لا يقتصر على كسر سطوة الاستبداد وحده، بل يمتد إلى كسر سطوة الذاكرة المريضة التي تمجّد الهزيمة وتكرّسها. التحدي أن نعيد الاعتبار للعقل، فلا نراه عدواً للبطولة، بل شريكاً أصيلاً فيها. عندها فقط يمكننا أن نكتب تاريخاً جديداً، لا ينسجه الدم وحده، بل تصنعه أيضاً البصيرة، ويغذيه الوعي، ويقويه النقد، وتضمن استمراريته القدرة على البناء والإبداع.
abudafair@hotmail.com