د. الهادى أبو ضفائر يكتب القرآن بين الثبات التأويل.. من النصّ الإلهي إلى الفهم الإنساني

admin2023admin2023 11, أكتوبر 2025 19:10:47

 

القرآن ليس أثراً صامتاً عبر العصور، بل روحٌ حيّة تسري في الوجود، تنهض مع كلّ قلبٍ يقرؤه بشوقٍ إلى النور، وتسكن الوجدان كلّما أُصغى إليه بإخلاص، ويستنير به العقل حين يتطهّر من غشاوة الهوى. إنّه نَفَس الحياة في عالمٍ يختنق بالضجيج، وصوت الحقّ في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتغيب الحقيقة. هو الكلمة التي لا تزال حيّة منذ أن نزلت، والنور الذي لا يخبو مهما خبت مصابيح العقول، لأنّ الله تكفّل بحفظه ليبقى الثابت في عالمٍ تتبدّل فيه الأهواء، والميزان الذي لا يختلّ وإن اضطربت الموازين. فهو النصّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظٌ في جوهره، متجدّدٌ في دلالاته، يشرق بكلّ قراءةٍ صادقةٍ تبحث عن النور.

لكنّ ثبات النصّ لا يعني أن يظلّ الوعي جامداً. فكل جيلٍ يقرأ القرآن بعين تجربته، وكل عقلٍ يستقبل أنواره بحسب صفائه، وكل بيئةٍ تنظر إليه من نافذتها الخاصة، لتكشف عن طبقات جديدة من المعنى. وما بين عقلٍ يقرأه ليحيا، وآخر يقرأه ليحكم، تتجلّى المسافة بين الوحي الإلهي وتجربة الإنسان المحدودة. فالقرآن لا يُختصر في فهمٍ واحد، ولا يُحتكر بمذهب، لأنه نزل ليحرّر الإنسان من قيوده الداخلية، ويخاطبه في جوهر وجوده، لا ليضعه أسيراً لما صاغه البشر من أنظمة وأهواء. كل قراءة صادقة تفتح آفاقاً جديدة، وتعيد للنص حياةً تتجاوز الزمن والمكان، لتظل كلماته شعاعاً لا ينطفئ في روح كل من يسعى إلى النور.

لقد أخطأ من جعل النصّ حارساً على فكرة أو درعاً لمصلحة، أو شعاراً لمعركة لا روح فيها. فالقرآن لم يُنزّل ليبرّر الصراع، بل ليطفئ ناره، ولم يُرسل ليكون سلاحاً ضد المختلفين، بل سلّماً يرتقي به الإنسان نحو الحق والخير. وما بين يدي الإنسان من كتاب الله، هو مرشد للنفس والروح قبل أن يكون دليلاً للعقل، فهو حياةٌ قبل أن يكون سلطة، ورحمة قبل أن يكون قانوناً. أولئك الذين حوّلوا القرآن إلى شعارٍ بلا فهم أو وعي، حبسوه في قفص السياسة والطائفة والهوى، ففقدوا جوهره، وعموا عن حقيقة أنه كتاب للحرية الروحية، وميثاق للرحمة، ودليل للإنسان ليصنع من نفسه مكاناً للنور في هذا العالم، لا ساحة للقتال والانقسام.

إنّ الأزمة ليست في النصّ الإلهي، بل في قارئه، فالكلمة الباقية على صفائها لا تتغير، بينما تتقلب النفوس وتضطرب كلّما قرأت بلا نية صافية ولا استعداد للهداية. فالنص لا يعكس رغبات الإنسان، بل يكشف أعماق روحه، ويضعه أمام ذاته كما هي، ليختبر صدق سعيه للمعرفة والنور. من يبحث عن تأكيد أهوائه يرى ما يشتهي، لكنه يبقى أسير انعكاسات نفسه، أما من يفتح قلبه للصفاء، ويسعى بنية التطهر والفهم، فإنه يجد في النص نوراً يطهّر وجدانه، ويهديه إلى ما يوسع مداركه ويحرر روحه. فالكلمة الإلهية ليست حكراً على العلماء، ولا مقصورة على الفقهاء، بل هي نافذة لكل عقل متأمل، وقلب صادق، وروح تنشد الحقيقة، لتشرق على من يسعى إليها بصدق وإخلاص.

القرآن، في جوهره، ليس نصّاً لغوياً فحسب، بل تجلٍ للوحي الإلهي في الكلمة، خطابٌ يتجاوز الزمان والمكان، يمنح كل قارئٍ ما يستوعبه من النور بحسب عمق قلبه وصفاء نيته. فمن قرأه بعين الخوف، لمس فيه ملاذاً وسلاماً، ومن قرأه بعين الطغيان، رأى فيه وعيداً يحذّره من أهوائه، أما من قرأه بعين الحب، فاستنار برسالة رحمةٍ مطلقة، تُنير ضعف الإنسان، وتذكره بأنه خليفةٌ مسؤول وصانعٌ لوجوده، لا تابعٌا للظلال ولا أسيرٌا للوهم. كل كلمة فيه، حين تُستقبل بصدق، تحرر العقل وتطهّر الروح، وتفتح أفقاً جديداً للوعي الإنساني، حيث يصبح الإنسان مشاركاً في الرحمة لا مجرد متلقٍ للكلمات.

إنّ أسمى ما يمكن أن نبلغه من القرآن هو أن نراه فينا قبل أن نراه في غيرنا، وأن نقرأه بعين الباحث عن ذاته لا بعين القاضي على سواه، وأن ندرك أنّ دعوته الأولى هي لإصلاح القلب قبل إصلاح العالم. فإذا ما تحرّرت قراءتنا من الخوف، ومن أغلال التفسير الذي حبس الوحي في قوالبٍ جامدة، انفتح أمامنا القرآن كفضاءٍ رحبٍ للوعي، وكجسرٍ يصل بين العقل والروح، لا كسجالٍ بين اللفظ والمعنى. عندها فقط نفقه أنه ليس أثراً من الماضي، بل رفيقاً للمسير الإنساني في كلّ عصر، يواكب تطلّع الإنسان الدائم إلى الحقيقة، ويهديه في رحلته بين الغيب والشهادة.

وحين نقرأه بهذا الوعي، لا نرى فيه أوامرَ ونواهي فحسب، بل نداءً أبدياً إلى النهوض بالإنسان، إلى أن يعيد تعريف نفسه أمام خالقه، وليَتذكّر الإنسان أن الله لم يخلقنا لنعبد الخوف، بل لنحرّر أرواحنا بطاعة الحقّ، وأنّ العبودية الحقيقية ليست في الخضوع وحده، بل في وعيٍ يدرك أن الطاعة لا تُنافي الحرية، بل تُكمّلها حين تكون لله وحده فالقرآن دعوةٌ لأن يكون الإنسان شاهداً على نفسه، وصوتاً للعدل في وجه الظلم، وجسراً بين الأرض والسماء.

في النهاية، ليس النصّ هو الذي يبتعد عن الإنسان، بل الإنسان هو الذي يبتعد عن نفسه حين يقرأ القرآن بعين الغفلة لا بعين البصيرة. فالوحي ليس كلماتٍ تُتلى فحسب، بل حياةٌ تُستعاد كلّما أشرقت الكلمة في القلب. إنّ الله لم يُنزّل كتابه ليُعلّق في الجدران، ولا ليُقرأ بلسانٍ غافل، بل ليكون حياةً تمشي بين الناس، نوراً يُضيء العقول ويطهّر النفوس، ويذكّر الإنسان أن الثبات في القرآن هو عين الحركة، وأن النصّ الذي لا يتغيّر هو الذي يغيّر كلّ شيء. فكلّ من قرأه بقلبٍ حرّ، عاد إلى ذاته، وكلّ من أصغى إليه بصدق، أدرك أن الطريق إلى الله يبدأ من كلمةٍ تُقرأ، لا من سيفٍ يُرفع.
‏abudafair@hotmail.com


#أخبار العالم الآن #العالم الآن alalamalan #العالم الآن الإخبارى alalamalan #د. الهادى أبو ضفائر يكتب القرآن بين الثبات التأويل.. من النصّ الإلهي إلى الفهم الإنساني

اخبار مرتبطة