قلة الأدب… ليست كما نظن !

admin2023admin2023 4, أغسطس 2025 09:08:24

بقلم امير عادل مهندس معماري ومؤلف

 

“قلّة الأدب” عبارة نُطلقها بخفة الأطفال، وغالبًا على الأطفال، كأنها سلاحٌ خفيف ضد سلوكٍ ثقيل. نتهرّب من معناها كما يتهرّب العاجز من وجهه في مرآة. وحين نسمعها، تتجه أذهاننا مباشرة إلى الوقاحة، أو انعدام الأخلاق. ولكن، ماذا لو كانت الأزمة أعمق؟ ماذا لو كانت “قلّة الأدب” تعني ببساطة أننا لم نعد نقرأ أدبًا كافيًا؟ أو أننا لم نعد نحيا بقدرٍ كافٍ من الجمال الذي يُنتجه الأدب؟

لقد تحوّلت الكتب، المحمَّلة بكلمات الأدباء والمفكرين، إلى أدوات تغليف، لا أدوات تفكير. صار استخدام الصحف والكتب أكثر حضورًا على موائد الطعام منه على موائد العقل. هل رأيت يومًا كتابًا يُستعمل لفرش زيتٍ أو تسنيد منضدة مكسورة؟ نعم، لقد فعلناها. ويا لها من مأساة: أن يُستخدم الأدب لسند المائدة، بدلًا من أن يسند عقولنا! باختصار، دون اختزال: نحن نستخدم عبارة “قلّة الأدب” لإدانة الآخرين، بينما تُديننا نحن، لا بوقاحة الألفاظ، بل بفقر المكتبة. أو ربما، بعدم وجود مكتبة من الأصل.

لقد صار الأدب رفاهية. وكأنّ الجمال ترفٌ لا ضرورة له. أصبح الفكر عبءٌ على الرأس لا طعامٌ للعقل. وكأنّ الذوق فضيلة عتيقة لا تُناسب السرعة. بدت الكلمة النبيلة تأخذ وقتًا أطول من اللازم، فتُستبدل بصورةٍ أكثر إضحاكًا، وأقلّ أثرًا؛ أو تُستبدل بكلمةٍ هزلية، فارغة من المحتوى، أو – لعلّ الأسوأ – تُقال من فمٍ فارغٍ من العقل.

لقد كان الأديبُ فيما مضى يرسم بالكلمات، تمامًا كما يروي الرسّامُ الحكايةَ بالألوان. أحدهما يُلوِّن المعنى، والآخر يُفسِّر الصمت. كلاهما كان يسكن عالمًا يحترم الصياغة، ويخشع للجمال، ويوقن أن للكلمة وزنًا كما للحجر، وللظل معنًى كما للضوء؛ ليس لمجرد الترفيه، بل للإبداع المغلَّف بالارتقاء نحو التغيير.  لقد كان العاملُ المشتركُ بين الكلمات والألوان هو المصدر، والنتيجةُ هي الأجمل، والإنسانُ لا يحكم، بل يتذوّق طَعمين من الجمال هما الأغلى: سلامٌ يُربّتُ على القلب، عندما تؤِّد الكلمات المعتقد، أو ثورةٌ عليه، عندما يتحدى المكتوب، المفاهيم الراسخة في قاع العقل.

اليوم، تضرب الريشة الورقة، فتتناثر البهجة بعيدًا، بينما تضربنا الحياة، فنتناثر نحن. صارت الكتابة أسرع من القراءة، والقول أسرع من الفهم، والآراء تُلقى كما تُلقى الأحذية، على الرصيف بأرخص الأسعار، لا كما تُنحت الأفكار بتذوق الجمال في ألم التغيير.

في عالمٍ يغرق في القبح، تأتي الكلمات والألوان كجرعةٍ مركّزةٍ من الجمال، تنسج خيوطًا رفيعة بين الفوضى والمعنى. علّها تُبرقُ الظلام، في فكرةٍ، أو لحظةٍ عابرة. لكنها خيوط هشّة، لا تصمد طويلًا إن لم تجد قارئًا، قارئًا يتمرَّد على كسل ذهنه كما يتمرَّن الرياضي على خمول جسده. فالمشكلة ليست في قلة الكُتّاب، بل في ندرة القُرّاء.

أحيانًا يُقدِّم القارئ أعذاره تحت عناوين مألوفة: “تفاهة المكتوب”، أو “سطحية الكاتب”، وربما الاثنان معًا. لكن الحقيقة المُرَّة لا تكمن فقط في وجود التفاهة، بل في تتويجها. حين تُتوَّج التفاهة بالمراكز الأولى فهناك، حيث تتربّع الركاكة على عرش القراءة، نجد أقلامًا تستحق لا المديح، بل صفعةً على الوجه، أو بترًا في الرسغ، إن جاز التعبير!

المشكلة لا تبدأ بالكاتب فقط، بل بالقارئ: ذاك الذي ينفق المال، ويُنفق معه ذائقته ونفسه، ليقرأ كتابةً لا تُغذِّي عقلًا، بل تُثقل الروح بتفاهةٍ فاخرة الثمن. وفي اللهث وراء شعار “أعلى المبيعات” يُمنح السخف منصّة، وتُوَزَّع عليه الجوائز، ويفوز بلقب “الأديب”، فالأزمة أعمق من قلمٍ فارغ، إنها أزمة عقلٍ يُصفِّق.

لقد تبدّل الشعار من “القراءة للجميع” إلى “الكتابة للجميع”، ثم إلى ما هو أخطر: الكتابة بلا قراءة، بل أحيانًا، بلا كتابة أصلًا! فقط صدى أفكار مكرّرة، معاد تدويرها بلا روح. أُصيبت العقول بالتخمة، وزاد الوزن فوق مجتمع لا يحتمل ثقل التفاهة. وفي محاولة التفاهة للتجميل، غيّرت مسارها، أو خضعت لعملية تكميمٍ لجمالها المزعوم!

نحن نحب الأخلاق، لكن دون جرأة الالتزام بها.

نحب الأدب، لكن دون وقتٍ لقراءته.

نحب أن نبدو مثقفين، دون أن نكون كذلك حقًا.

في الأخير أقول: أصبحت “قلّة الأدب” حالةً ثقافية، وذهنيّة، لا مجرّد سلوكٍ فردي. لقد خُلقت عقولنا لتفحص، لتُغربِل الأفكار، وتُغربَل تحت وطأة الحُجّة والدليل. لكن في زمن قلّة الأدب، رفضنا القراءة، وهربنا من خبرات الآخرين المنقوشة على الورق، ولهثنا خلف المتعة السهلة. فضاع الغربال. وصارت الأدلة بلا دليل، والأجساد بلا عقول.

أيها القارئ — إن كنت ما زلت هنا — أنقذ الأدب. لا بالكتابة فقط، بل بالقراءة. احترم المصادر أكثر من وسائل التواصل. لا من أجل الاستمتاع الفكري فحسب، بل من أجل الارتقاء الإنساني… الذي لا يُرى إلا في الأخلاق. دعونا نكثر من الأدب، بغرض كثرة الأخلاق، فالأدب لا يحتاجُ أقلامنا فقط، بل يحتاجُ وجوهنا أيضًا، لكي نراه… ونرى أنفسَنا من خلاله.

اقرأ، كما لو أنّ العالم يعتمد على ذلك. لأنه — صدّقني — قد يفعل.



اخبار مرتبطة