«مذبحة القلعة» أو «مذبحة المماليك»، هي واحدة من أبرز الأحداث الدموية في تاريخ مصر الحديث، دبرها محمد علي باشا في 1 مارس 1811م للقضاء على نفوذ المماليك وتوطيد حكمه في مصر.
السياق التاريخي
بعد انسحاب الحملة الفرنسية من مصر عام 1801م، شهدت البلاد فراغًا في السلطة وصراعًا ثلاثيًا بين:
- العثمانيين: الذين كانوا يسعون لاستعادة سيطرتهم الكاملة على مصر.
- المماليك: الذين كانوا يطمحون لاستعادة حكمهم للبلاد.
- محمد علي باشا: قائد الفرقة الألبانية في الجيش العثماني، والذي كان يتمتع بنفوذ متزايد وشعبية بين المصريين.
تمكن محمد علي من التغلب على خصومه شيئًا فشيئًا، وتولى حكم مصر عام 1805م بفرمان من السلطان العثماني وموافقة الزعامة الشعبية. لكن المماليك ظلوا يمثلون تهديدًا كبيرًا لحكمه، حيث كانوا يسيطرون على مناطق واسعة في الصعيد، ويفرضون الإتاوات، ويثيرون القلاقل، مما يعيق جهود محمد علي في بناء دولة حديثة قوية.
التخطيط للمذبحة
كان محمد علي يعلم أن المماليك لن يتخلوا عن طموحاتهم بسهولة، وأن وجودهم يهدد استقراره. لذا، قرر التخلص منهم نهائيًا. جاءت الفرصة عندما أمره السلطان العثماني بإرسال حملة عسكرية بقيادة ابنه طوسون باشا إلى الحجاز للقضاء على الوهابيين. رأى محمد علي في هذه المناسبة فرصة للقضاء على المماليك.
دعا محمد علي باشا زعماء المماليك وكبار أمرائهم إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة، بحجة إقامة احتفال كبير بمناسبة تولية ابنه طوسون قيادة الحملة إلى الحجاز ووداعه.
يوم المذبحة (1 مارس 1811م)
في صباح يوم 1 مارس 1811م، توافد نحو 470 من أمراء المماليك وبكواتهم وفرسانهم إلى القلعة، مرتدين أجمل ثيابهم ومتحلين بأسلحتهم، وتم استقبالهم بحفاوة بالغة. بعد انتهاء الاحتفال، أمر محمد علي ببدء موكب وداع طوسون باشا.
خرج المماليك في الموكب من القلعة عبر طريق ضيق ومحدب يؤدي إلى باب العزب. كانت الخطوط العسكرية لمحمد علي قد تم ترتيبها بعناية على جانبي الطريق، وعلى المرتفعات المطلة عليه. بمجرد أن دخل المماليك هذا الممر الضيق، وأصبحت أبواب القلعة خلفهم مغلقة، صدرت إشارة البدء.
فوجئ المماليك بوابل من الرصاص ينهال عليهم من كل اتوب، من الجنود المختبئين خلف المتاريس وعلى أسوار القلعة. حاولوا الفرار لكن الأبواب كانت مغلقة، والممر ضيق، ولم يجدوا مفرًا. كانت مذبحة مروعة، حيث سقط معظمهم قتلى.

باب العزب بالقلعة

تم تجديد باب العزب وميدان الرميلة على يد الخديوي اسماعيل حفيد محمد على
الناجي الوحيد
الرواية الأكثر شهرة هي نجاة أمين بك الألفي، الذي يُقال إنه تمكن من القفز بحصانه من فوق سور القلعة العالي (يُرجح أنه من فوق باب العزب) ونجا بأعجوبة، ثم فر إلى الشام. أصبح هذا الحدث جزءًا من الفلكلور المصري.

روايات مختلفة حول نجات المملوك الهارب:
- الرواية الأكثر شهرة: أنه كان في مؤخرة صفوف المماليك، وعندما بدأت المذبحة، قفز بحصانه من فوق سور القلعة العالي (ويُقال تحديدًا من فوق باب العزب). يقال إن الحصان مات من شدة السقوط، لكنه هو نجا، ثم فر إلى الشام.
- رواية أخرى: تشير إلى أنه غادر قاعة الاستقبال في القلعة قبل بدء المذبحة، بعد أن انسكب فنجان قهوة على ملابسه، واعتبر ذلك فألاً سيئًا فقرر الرحيل لينجو بحياته.
- رواية ثالثة: تقول إنه حضر متأخرًا ورأى أبواب القلعة تغلق وسمع إطلاق الرصاص، فأدرك ما يحدث وتمكن من الفرار قبل أن يقع في الكمين.
أمين بك الألفي هو الوحيد الذي اشتهر بالنجاة من مذبحة القلعة التي قضى فيها محمد علي باشا على غالبية أمراء المماليك، لكي يوطد حكمه في مصر.
ما بعد المذبحة
بعد المذبحة، أصدر محمد علي باشا أوامره بملاحقة بقية المماليك في كافة أنحاء مصر، خاصة في الصعيد، للقضاء عليهم نهائيًا. استمرت هذه الملاحقات لعدة أشهر، وقضت على الغالبية العظمى منهم.
بذلك، استطاع محمد علي باشا أن يزيل أكبر عقبة في طريقه، ليصبح الحاكم الأوحد لمصر، ويبدأ في بناء دولته الحديثة القوية، وتنفيذ إصلاحاته الشاملة في الجيش والإدارة والاقتصاد والتعليم. تُعد مذبحة القلعة نقطة تحول حاسمة في تاريخ مصر، إذ مهدت الطريق أمام حكم أسرة محمد علي الذي استمر لأكثر من قرن ونصف.
**************
طوسون باشا هو أحمد طوسون باشا، الابن الثاني لمحمد علي باشا . وُلد عام 1794م وتوفي في سبتمبر 1816م.
اشتهر طوسون باشا بقيادته للحملة العسكرية المصرية إلى الحجاز ونجد (ما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية) للقضاء على الدولة السعودية الأولى (الدولة الوهابية)، بناءً على طلب من السلطان العثماني.
حرب الوهابية:
كُلِّف طوسون باشا بقيادة الحملة العسكرية إلى الحجاز وهو في سن صغيرة (حوالي 17 عامًا) في عام 1811م.
- بدأت حملاته باحتلال ينبع، ثم تقدم نحو مكة المكرمة وتمكن من إخراج القوات السعودية منها.
- أرسل مفاتيح الكعبة إلى والده محمد علي باشا كرمز للسيطرة على الأماكن المقدسة.
- واجه صعوبات وهزائم في بعض المعارك ضد القوات السعودية، مما اضطر محمد علي باشا للتوجه بنفسه إلى الحجاز عام 1813م لدعم حملة ابنه.
- على الرغم من بعض الانتصارات، لم تتمكن حملة طوسون من القضاء التام على الدولة السعودية الأولى، وهذا الدور استكمله لاحقًا أخوه إبراهيم باشا.
وفاته: توفي طوسون باشا في سبتمبر 1816م (وقيل عام 1816 أو 1817) متأثرًا بمرض أو جروح أصابته خلال حملات الحجاز، وقيل إنه توفي بالطاعون، عن عمر يناهز 21 أو 22 عامًا. كانت وفاته صدمة كبيرة لوالده محمد علي باشا.

