الدكتور حسين المقداد أستاذ ورئيس قسم القانون الدستوري بجامعة حلوان: “فيتو رئاسي لتعزيز حماية الحريات الأساسية في مشروع قانون الإجراءات الجنائية”.
في واحدة من أرقى صور الممارسة الديمقراطية، أبدى فخامة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي- اعتراضًا – دستوريًا – على عدد من مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية، عملًا بحكم المادة (١٢٣) من الدستور، في ممارسة دستورية جديرة بالوقوف أمامها؛ لما تفيض به من حسٍّ وطني عميق، وبصيرة دستورية نافذة، وحرص صادق على أن يظل البناء التشريعي في مصر قائمًا على عُمُد متينة من الوضوح والإحكام والتوازن، ولا تطغى فيه مقتضيات العدالة الناجزة على ضمانات الحرية الأساسية المكفولة دستوريًا، وتعكس في الوقت ذاته، وعلى حد وصف السيد الدكتور/ حنفي جبالي- رئيس مجلس النواب، وعيًا استثنائيًا بقدسية العدالة الجنائية ومكانتها في صون السلم العام وحماية المجتمع، فضلاً عن كونها من أرقى صور ممارسة الصلاحيات الدستورية في مراجعة عمل البرلمان، وتجسيدًا حيًّا لنهج سياسي يقوم على الانحياز المطلق لدولة القانون، والإيمان العميق بأن حماية الحقوق والحريات ليست منّة تُمنح، وإنما هي التزام دستوري أصيل، وأن العدالة لا تستقيم إلا إذا اقترنت باليقين والوضوح والإنصاف.
ومن بين الاعتراضات التي تضمنها خطاب الرئيس إلى البرلمان، محدودية بدائل الحبس الاحتياطي، والتي تنتهي معها الممارسة العملية إلى المساس بقرينة البراءة، وإثقال السجون بالمزيد من الأعباء.
لذا، كان لزامًا علينا، واتساقًا مع توجه فخامة الرئيس السيسي، أن نسلط الضوء على أبرز بدائل الحبس الاحتياطي التي توصل إليها فقهاء القانون الدستوري والجنائي في مختلف الديمقراطيات المستقرة.
بدائل الحبس الاحتياطي في مختلف دول العالم:
كثيرة هي البدائل التي يمكن لمجلس النواب أن يتخير من بينها، للاستعاضة عن آلية الحبس الاحتياطي؛ وأبرزها ما يلي:
تمثل بدائل الحبس الاحتياطي توجهًا عالميًا لتقليل الاعتماد على السجون في ضمان حضور المتهمين جلسات التحقيق والمحاكمات، وتختلف من دولة إلى أخرى- بحسب ظروفها ومعطيات واقعها، ولكنها تدور حول ثلاثة محاور، هي: الرقابة القضائية أو الشرطية، وتقييد الحرية دون سلبها كليًا؛ والضمانات المالية أو التعهدات الشخصية، ونعرض لها بشيء من الأيجاز على النحو التالي:
(1) إخضاع المتهم لنظام المراقبة الإلكترونية؛ ومقتضاه أن تقيد حرية المتهم عبر أجهزة إلكترونية (سوار إلكتروني في القدم أو اليد) تحدد موقعه.
(2) التعهد بعدم التعرض لـ أو الاتصال بالمجني عليه؛ وفيه يُلزم المتهم بعدم الاتصال بالمجني عليه أو الاقتراب منه، مع التهديد بالحبس إذا خالف، خاصة في قضايا العنف الأسري أو الجرائم الجنسية.
(3) إلزام المتهم بالحضور الدوري أمام جهة معينة؛ ومؤداه إلزام المتهم بالحضور بشكل دوري أمام مركز شرطة أو قاضي التحقيق لإثبات وجوده.
(4) سحب جواز سفر المتهم أو تقييد حركيته في التنقل؛ ومؤداه إلزام المتهم بعدم مغادرة البلاد، أو منعه من السفر خارج مدينة معينة.
(5) إخضاع المتهم للرعاية المجتمعية أو الرقابة الاجتماعية؛ وفيه يُلزم المتهم بالانخراط في برامج علاجية أو اجتماعية (مثل مكافحة الإدمان أو برامج التأهيل الاجتماعي).
(6) الإفراج المشروط أو تحت الرقابة القضائية؛ ومداه أن يُفرج عن المتهم على ذمة التحقيق، مع وضعه تحت إشراف قضائي أو شُرَطي.
(7) الضمان المالي (أو الكفالة)؛ وبموجبه يدفع المتهم مبلغًا من المال كضمان لحضوره جلسات التحقيق والمحاكمة.
(8) تحديد إقامة المتهم في مكان معين (الإقامة الجبرية)؛ وفيه يُلزم المتهم بالبقاء في مكان محدد (مسكنه أو مكان آخر) ومنع مغادرته إلا بإذن، ويُراقب غالبًا باستخدام الأساور الإلكترونية.
بدائل الحبس الاحتياطي التي تناسب الوضع في مصر:
لم تكن مصر بعيدة عن بدائل الحبس الاحتياطي، بل أدخلت عددًا من التدابير الاحترازية على مشروع قانون الإجراءات الجنائية، ولكنها جاءت محدودة بعض الشيء (ثلاثة تدابير فقط)، بما يستفاد منه أن مشروع القانون بحاجة إلى التوسع في بدائل الحبس الاحتياطي، مما يقوي من فاعليتها، وعلى وجه الخصوص أن يعمد المشرع المصري إلى إدخال بدائل إضافية مثل: المراقبة الإلكترونية، وسحب جواز السفر، والتعهد بعدم التعرض أو الاتصال؛ لتحقيق المواءمة بين حماية الحرية الفردية واعتبارات العدالة الجنائية، والاتساق في الوقت ذاته المعايير الدولية لحقوق الإنسان، خصوصًا المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966)، والتي تؤكد الحبس الاحتياطي استثناء من أصل ثابت هو الحرية؛ إذ تنص على أنه: “لا يجوز أن يكون الاحتجاز السابق على المحاكمة، هو القاعدة العامة، بل يمكن أن يكون الإفراج عن الأشخاص قيد المحاكمة رهينًا بضمانات.
ومن جانب آخر، فقد وضعت قواعد طوكيو (1990) الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، إطارًا عالميًا لبدائل العقوبات السالبة للحرية، من طريق التشجيع على استخدام آلية الإقامة الجبرية، والمراقبة، وبرامج العلاج. كما شددت القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (المعروفة بقواعد نيلسون مانديلا 2015)، على ضرورة تقليل اللجوء إلى الحبس الاحتياطي، وضمان الكرامة الإنسانية وحماية قرينة البراءة التي تكفلها شتى دساتير الدول الديمقراطية، وتفرضها قواعد المنطق الطبيعي.