عاجل
الأحد. يوليو 27th, 2025

سعيد الخولى يكتب : المعلم عبدالمنعم منصور

العالم الآنالعالم الآن 15, ديسمبر 2023 18:12:28

 

أما المعلم هنا فبمفهوميها العامى بكسر الميم والفصيح بضمها،فقد كان الاثنان بنفس الاسم وبذات الصفتين للأول وللثانى.
منتصف سبعينيات القرن الماضى وشوارع قريتى نكلا العنب يكاد كل من فيها يعرف بعضهم بعضا بالمكان والنسب والاسم والحسب أيضا؛الشارع العمومى قلب البلدة الوادعة يمتد من بحرى القرية إلى قبليها يقع في ثلثه الأخير دار العيلة التي شهدت فيها تلك السنوات بين الجدين والأعمام وأبناء العمومة.مجموعة من الدكاكين الصغيرة قياسا لنظيرتها الآن التي تسابق الزمن لتضارع المدينة كما ونوعا وإمكانات.لكن تبقى علامات الماضى اتجاها من دارنا العتيقة إلى قبلى البلد دكاكين سعيد قطارة وجمال الأسوخ وصلاح زعتر والحاج إسماعيل السقا ـ شقيق الشيخ محمد الغزالى رحمه الله ـ وماهر القالع والشيخ محمد الحمامصى وحسن جعفر والمحلاوى وصولا إلى دكان المعلم ـ بكسر الميم ـ عبدالمنعم منصور أشهر حلاق أو «مزيٍّن» بالقرية وقتها. المعلم عبد المنعم المزين ـ أى الحلاق بلغة ذلك الوقت ـ كان متوسط الجسم طولا وعرضا أزرق العينين ـ قبل ظهور العدسات الملونة بكثير ـ يتمتع بوسامة طبيعية تقربه من وسامة نجوم السينما ـ المصطنعة غالبا بالكاميرات والمكياج وأحيانا بعمليات التجميل ـ كما أتذكره ودكانه بكرسييه العتيقين ومراياه التي تحيط بمن يجلس للحلاقة وقد طلى الدكان بلون أبيض يكسبه لونا من الأناقة رغم ميله إلى الاصفرار بفعل الزمن يجعله بلون “البيج” كما نسميه حاليا ،وكل من يجلس إلى كرسى الحلاقة يرى نفسه في المرايا التي تأثر نقاؤها وصفاء لمعانها بطول تواجدها،ولم يكن يجلس على الكرسى هناك إلا الشباب والصبية غالبا فالكبار من الرجال في العائلات كان المعلم عبدالمنعم ينتقل إليهم بحقيبته الجلدية العتيقة الصغيرة بيده وفيها عدة الحلاقة ،وأحيانا شنطة خشبية مستطيلة بها أدوات طبية مثل القطن والميكروكروم وصبغة اليود ومقص صغير وبعض “سرنجات الحقن” لزوم قيامه بحقن أحد المرضى هنا أو هناك من زبائنه.
نعم كان حلاق العائلة كما كان حلاق عائلات أخرى كثيرة بالبلد،وكان إلى ذلك يؤدى غالبا دور الممرض وأحيانا ترتفع درجة دوره فيكون في منزلة طبيب للحالات الخفيفة.ومازلت أتذكر الحقنة التي كان يحملها في حقيبته ويتم غلى بعض الماء فى إناء صاج وبها الحقنة لتطهيرها قبل الاستخدام؛فلم تكن السرنجات ذات الاستخدام الواحد قد ظهرت بعد وبالتالي كانت تلك الحقنة المتنقلة تجوب دور القرية بحريها وقبليها وشرقيها وغربيها حسب مكان الحالة ليتم غليها كل مرة يتم استخدامها بها،ولو قيس هذا الاستخدام بزمننا هذا فلعلها كانت تتسبب في كوارث وتنقل عدوى مستعصية من شخص إلى آخر بل بين عشرات ومئات الأشخاص،لكن الله كان لطيفا بعباده أولئك البسطاء فلم تكن بيئتهم قد تلوثت ولانفوسهم أيضا؛فأنا أرى أن تلوث البيئة الذى يملأ العالم أمراضا في زمننا الحالي يتوافق معه كثيرا تلوث فطرة الناس ونفوسهم،ألا يقول المثل الشعبى”ربنا بيدى البرد على قد الغطا؟”،وهكذا أيضا تكون الأوبئة أحيانا على قدر نفوس الناس وتخليها عن البساطة والطيبة بالنظر إلى ما في يد الآخرين غلا وطمعا وحقدا وتجاهلا لأوامر الله ونواهيه بما يشبه الاعتراض على أقدارهم قياسا إلى أقدار الآخرين.
هكذا كان المعلم عبدالمنعم دائم التردد على البيوت تاركا في الغالب أحد أبنائه وصبيانه في المحل لمن يتردد عليه من الشباب والصغار،أما هو فكانت مهمته الكبار في الدور حلاقة أو تمريضا ،ناهيك عن طهور الأطفال الصغار،وقد ساقتنى أقدارى لحضور طهور أحد أبناء قريبة لى بالقرية ،وشاهدت عن قرب كيف كان يتم طهور الأولاد الصغار وشاهدت قطع “الجلدة “الزائدة وتناثر الدم ورباطة جأش المعلم عبدالمنعم والمشرط الحاد يكمل مهمته بثبات رغم صرخات الطفل واستغاثته وترفيسه مقاوما الأيادى الفلاحى الصلبة التي كانت تمسك به بقوة من كل أطرافه وجسده،كانت مشاهدة قاسية قابلتها باللهو رغم فزعى واطمئنانى أننى تجاوزت هذه الشعيرة الصعبة دون أن أشعر وأنا رضيع كما حكى لى الكبار!.
المعلم عبد المنعم منصور كان يعرف تقريبا كل أفراد العائلات التي يدخلها أو يذهبون إليه في دكانه قبلى البلد بجوار قهوة عبدالسلام،نعم كان يعرف الأسماء ويعيها وكأن كل الكبار إخوته وكل الشيوخ آباؤه وكل الصغار أبناؤه،كان يلم بكل الأسماء تقريبا بحميمية يقابله بها الجميع وترحاب يلقاه في كل الدور للفلاحين المزارعين والبيوت التي يقطنها الموظفون من غير الفلاحين المزارعين،وإن كانوا نسبة قليل آنذاك ومعظمهم من غير أهل القرية ممن كانوا يعملون بالتدريس بمدارس القرية أو الجمعية الزراعية أو الوحدة المجمعة،ولعله كان واحدا من أشهر شخصيات القرية كما عايشته وعاصرته.
ولم تتوقف معرفتى بالمعلم عبدالمنعم منصور رحمه الله عند هذه الحدود في التعامل بالقرية بل شاء القدر أن يكون ارتباطى بعائلة منصور بالقرية وفى غير القرية وقد سعى إخوته على القاهرة الإسكندرية،لتكون من مصادفات القدر أن يتزوج شقيقاه من ابنتى خالى واحدة بالقاهرة كان زوجها الراحل محمود منصور رحمه الله يعمل بالجيزة والثانية بالإسكندرية وكان زوجها الراحل سعيد منصور رحمه الله ضابطا بالقوات البحرية وقادته أقداره بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدى أبنائه حيث قضى نحبه هناك رحمه الله،أما الشقيق الثالث فكان جارنا الملاصق لمسكننا بشبرا بالقاهرة الراحل عبدالحميد منصور رحمه الله،وفضلا عن ذلك كان محمود نجل الجار عبدالحميد رفيق فترة الشباب ولعب الكرة بالفريق الذى كان يجمعنا وبقية رفاقنا بشارع محمود الحصرى الذى استقر به مقامنا القاهرى منذ عام 1970 بشبرا،وكان محمد الابن الأكبر للمعلم عبدالمنعم كثيرا مايأتى لزيارة أبناء عمه بالقاهرة ويقضى بعض الصيف هناك ويلعب معنا الكرة ونلهو كما يعن لنا اللهو فترة الإجازة الصيفية.
هكذا كان المعلم عبدالمنعم منصور “المزيّن” ـ بكسر الميم ـ واحدا من معالم القرية والوجود الكبير في أسرتى بنكلا أو بالقاهرة والإسكندرية ،أما المعلم عبدالمنعم منصور ـ بضم الميم ـ فهو حكاية أخرى ولها وقفة خاصة بها عن نفس الفترة من حياتى.


#ذكريات جميلة #ذكريات زمان #ذكريات لا تموت #ذكريات لا تنسى #سعيد الخولى

اخبار مرتبطة