عاجل
الأثنين. يونيو 9th, 2025

سعيد الخولى يكتب : الماء والخضرة والوجه الحسن

العالم الآنالعالم الآن 2, مارس 2024 16:03:34

ما كان أجمل مياه النيل والترعة زمان فى القرية حين كنا نملأ منها قلة كبيرة الحجم ذات عنق ضيق وبطن كبير تكفى ليشرب منها عشرة أشخاص،نملأها نهاية اليوم ونعلقها فى فرع التوتة مختفية بين أوراق التوت حولها وقد وضعنا بعض القش فى عنقها ليمنع دخول الحشرات إلى الماء،فإذا كان صباح اليوم التالى تسابقنا أينا ينال الشربة الأولى من مائها العذب وجسد القلة تختلط فوقه قطرات تنز فوق الجسد الفخارى مع قطرات ندى يلقيها البكور والطل، باردا شهيا دون برودة الثلج مرطبا للقلب وراويا للظمأ.لم يكن هناك فرق بين ملء تلك القلة من البحر عند ارض العائلة أو من ترعة المشروع الرئيسية أو حتى من بئر ساقية العائلة وهى تحمل المياه وتدفعها من الترعة إلى الأرض لتمدها بالحياة والخضرة اليانعة،فكل ماء تلك الأماكن كان زلالا سائغا للشاربين قبل أن تتحول الكيماويات إلى شريك للفلاح فى زرعه وضرعه ومشربه وتصبح رسولا للمرض في جسد الآكلين مما روته.وكان أجمل مافى الأمر تلك الأشجار الباسقة من الكافور والجزورين والضخمة المتفرعة كالجميز وشجرة التوت الجميلة الوارفة الظلال،والمنسدلة الناعسة مثل الصفصاف التى تشاطئ مياه الترعة والمشروع الرئيسى للقرية فتمد ظلها على الصائمين والقاعدين أسفلها يلتمسون نسائمها وموسيقاها فى الحركة والسكون فلم تكن تخلو من الموسيقى الطبيعية الخلابة بحركة أغصانها وحفيف أرواقها وتمازج فروعها على الأطراف خاصة مع عصارى يوم صيام ملىء بالعمل والمشقة، وفى خلفية كل ذلك زقزقة عصافير متنوعة الأشكال والأحجام والأنغام أو هديل يمام يكاد ينطق بكلمات:اذكروا ربكم،أو حتى صوت غراب ينادى وليفته،ناهيك عن أنقى هواء يمكن للإنسان أن يتنفسه وينقى به رئتيه.

كل هذا لم يشفع لتبطين الترع كى تبقى على تلك الثروة الهائلة من الأشجار والخضرة وجمال المنظر والنقاء فذهبت كلها فداء للتبطين الذى فائدته الكبرى الحفاظ على الفاقد من مياه الترع،ولعلى أرى أن القاع والشواطئ الطينية للترع كانت ذات فائدة للزروع وهى تمتزج بمياه الرى فتحملها بنسبة من الطمى من تلك الشواطئ والقيعان الطينية،ان التخلص من تلك الثروة من الأشجار بالتأكيد يمثل خسارة كبيرة خصوصا ونحن نعانى كغيرنا تلوثا بيئيا عاليا تخفف كثيرا من وطأته تلك الأشجار التى يبلغ عمر بعضها عشرات كثيرة من السنين.
تلك الخسارة الكبرى تتجسد أمامى فى زياراتى الأخيرة إلى القرية وقد تم تبطين المشروع الرئيسى ولم يبق على شاطئيه الأسمنتيين شجرة ولا فرع من شجرة ولاورقة من شجيرة،تلك الأشجار التى كانت تمثل مدخلا جميلا للقرية بداية من حدودها مع كفر عوانة الملاصقة لنكلا العنب،وهى التى نمّت فينا صغارا حب الطبيعة وصفاءها وشاعريتها وإحساسنا بالجمال وممارستنا لأجمل هوايات الصغار وهى الصيد تحت ظلال شجرة كانت جذورها وأوراقها وظلالها محمية تستقطب الأسماك الصغيرة تلهو تحتها وحول الممتد منها فى باطن شاطئ الترعة،لتسر الناظرين وتلبى عطش هواة الصيد الصغار ليعودوا بحصيلة من الأسماك تشبع سعادة قلوبهم قبل أن تشبع جوع بطونهم.
حقيقى أن مشروع تبطين الترع الذى يجرى حاليا فى ريف مصر هو لاشك مشروع حيوى للحفاظ على مياه الرى فى ظل تحديات سد النهضة والاستعداد لما قد يكون أسوأ، فنحن غالبا ما نسىء استخدام ماء النيل والتفريط فيها وهى نعمة لايدركها إلا المحرومون منها،ويكفى نهر النيل من فضل الله على مصر والمصريين أنهم يفتحون صنابير المياه ليشربوا ماء عذبا وغيرنا من الأمم والشعوب المجاورة والشقيقة شرقنا وغربنا يحسدوننا على تلك النعمة..لكننا وأقولها ثانية نسىء استخدام تلك النعمة ولم نعرف أهميتها أخيرا سوى مع اشتداد أزمة سد النهضة وإحساسنا قيادة وشعبا بالخطر الجسيم الذى يطاردنا، ورغم كل ذلك مازال الإسراف فى استخدامنا للمياه رسميا وشعبيا ينفى عنا الإحساس بحجم المشكلة. لكن رغم كل ذلك يبقى أن تبطين الترع لم يصب أهدافه جيدا بشهادة كثير من الخبراء فضلا عن كلمات وزير الرى أمام مجلس النواب التى كانت أول تلميح رسمى بأن سلبيات هذا التبطين كانت أكثر من إيجابياته، وحتي لو كانت إشارة الوزير تقصد النفقات الهائلة في ظروفنا الحالية فلعل كثيرين من أهل الريف المدنيين ذوى الجذور الريفية يلمسون تماما سوءات هذا التبطين القاسى.


#العالم الآن #الماء والخضرة والوجه الحسن #ذكريات لا تنسى #ذكريات من زمن فات

اخبار مرتبطة