د. مصطفى رجب يكتب : الدَّوَّامة

العالم الآنالعالم الآن 7, فبراير 2024 21:02:28

لست أدري بالضبط: هل أصبحتُ تافها بعد إحالتي للتقاعد ؟ أو أن التفاهة كانت تغمرني كل يوم ، حين أصحو مبكرا جدا ، وأهرول إلى عملي الحكومي الهزيل الذي غرقت فيه أربعين عاما ؟
في أثناء عملي كنت أحسّ بفراغ فارغ يذبحني كل يوم عدة مرات : عند التوقيع للحضور والانصراف ، وعند عرض أوراق ما على رئيسي في العمل ، الذي تغير عدة مرات ، فيوقع بوضع اسمه على ما أقدمه إليه من أوراق مطمئنا كل الاطمئنان ، كنت واثقا كل الثقة بأن هذا المدير يوقع مطمئنا إلى توقيعاتنا نحن صغار الموظفين قبل اسمه المهيب ،وأحيانا كانت تندّ منه انفعالات الخوف والرعب فيسترها باستفسارات غبية نجيبه عليها ، ونحن نخفي الضحك ، فينتفش ريشه ،وتعلو ضحكاته وكأنه أتى بالذب مسحوبا من ذيله !
كانت تحيط برئيسنا في العمل مجموعة من الكلاب المسعورة ،تحميه من غضب الموظفين ، وتوحي إليه في صحوه ومنامه ، أنهم حماة عرشه ، الإداري المخلصون ، وبأن المؤامرات التي تُحاك ضده ” تحت السيطرة ” فيمتلئ قلب الرجل خوفا وهلعا ،ويتنامى – في داخله – إحساس بالقلق والتوتر ،ويظل هذا التوتر ينمو ويعلو حتى يستحيل شيطانا مريدا يتخذ شكل شجرة عجوز جذورها ضاربة في أعماق نفسيته ، وأغصانها تميل يمينا ويسارا، فتظهر في تعبيرات وجهه المرتعش دائما علائم الخوف ، ويعكس تقلبه السريع ما يعتمل في سريرته من رعب جامح ، وهلع متصل.
أحد تلك الكلاب المسعورة جاء يوما إلى الإدارة التي كنت أعمل بها ،فانفطرت قلوبنا جميعا بمجرد دخوله ، مكث بيننا قرابة ساعة كاملة ، لم ينطق خلالها سوى بتلك التساؤلات المتتالية – التي بدت لنا مرتَّبة سلفاً – عن سير العمل ، وانضباط العاملين ، ثم خرج مشيَّعًا بنظرات التعجب والاستغراب .
لم نفهم لِمَ جاء ؟ ولِمَ ذهب ؟ وما الذي يبحث عنه؟
كل ما فهمناه أن هناك شيئا ما سوف يحدث: ترقيات، نقل موظفين ، جزاءات ، وهكذا قضينا شهورا بعد تلك الزيارة في تكهنات وتساؤلات لا تنقطع .
وبعد عام ثانٍ جاءنا كلب ثانٍ من كلاب الحراسة تلك ، وكان هذا الكلب الثاني معروفا لنا جميعا بما يشوب تاريخه من حكايات يتناقلها الزملاء همسا وهم بين مصدق ومكذب ، وبين مذعور ومستغرب ، ولكنه حين جاءنا اليوم كان مهذبا في حديثه ، مدققا في انتقاء كلماته ، حريصا على أن يُشعرنا بأنه الأقرب إلى قلب مديرنا العام .ويشير – بطرف خفي- إلى علاقة ” احترام ” كبير تربطه بأسرة المدير. وكان هذا الكلب الثاني أكثر حيطة وحذرا وتدقيقا من سابقه..فلم نستدل من كلامه المحايد على شيء ، ولم نستشف من إجاباته على أسئلتنا شيئا. ثم غادر مكتبنا ونحن أشد حيرة منا ساعة هبط علينا.فلا أخبار جدية عن تنقلات ولا ترقيات ولا علاوات ولا حتى عقوبات .
من أين جاءوا بكل تلك الوجوه اللزجة الملساء ؟ وكيف اكتسبوا تلك المهارات الفائقة في تمييع الأشياء ؟ وتسطيح الأفكار؟ كيف اكتسبوا تلك القدرة العميقة العجيبة على تمليس الخشن وتخشين الأملس ؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة التي سأوافيكم بها أواخر هذا القرن !..


#| ختام بطولة كأس العالم لسلاح الشيش #الدكتور مصطفى رجب #الشعر الحلمنتيشي #العالم الآن #د مصطفى رجب #قناة العالم الآن #يوميات ابن رجب

اخبار مرتبطة