الدولة التي تسير على طرق لم تعبّدها عقولها، وتستنير بمصابيح لم تشعلها أياديها، وتنتظم حركة مدنها بإشارات مرور لم تصنعها معاملها، والتي تصدر محاصيلها ثم تأكل مما يصنعه غيرها، وتصدر قطنها ثم تلبس مما ينسجه سواها، وتعالج جراحها بدواءٍ تنتجه مصانع الغير، وتحارب بأسلحة يبتكرها خصومها، وتحمي سماءها بدفاعات ليست من صنعها، هي دولة لم تجدد طاقتها الحضارية، ولم تبدع أدواتها، ولم تجرؤ على صناعة مصيرها. إنها توقفت عند حدود الاستهلاك، وتنازلت عن فضيلة الإنتاج، فصارت تنتظر الآخرين لتعيش، وتستعير من عقولهم أدوات التفكير، ومن أناملهم وسائل البقاء. فهي أمة فقدت البوصلة وغرقت في التيه الحضاري، بحاجة إلى صدمة تهز وعيها، وثورة فكرية تحررها من التبعية، لتستعيد معنى الحياة بكرامة وسيادة، وتعيد رسم مستقبلها بأيدي أبنائها، لا بأيادٍ أخرى.
تتجلى هذه الصورة بوضوح في بلد يملك أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة، لكنه يستورد القمح من روسيا وأوكرانيا، ويستجدي الدقيق من المعونات. بلد تشق أرضه أنهاره الذهبية، النيل العظيم، لكنه لا يروي أبناءه إلا بالوعود. بلد يعج بالثروات المعدنية والنفطية، ومع ذلك يقف في طوابير الوقود. بلد يمتلك أعظم ثروة حيوانية في إفريقيا، لكنه يستورد اللبن المجفف من هولندا. هذه المفارقات ليست أرقاماً فحسب، بل أعراض مرض حضاري عميق، يكشف كيف يمكن لأمة غنية بالموارد أن تبقى عاجزة عن تحويلها إلى قوة إنتاجية واستقلال حقيقي، ويؤكد أن التحدي الحقيقي ليس في الأرض أو المال، بل في وعي الأمة وإرادتها في صنع مصيرها.
لم ننتبه بعد، وقد استنزفنا أعماراً طويلة في اجترار صراعات الماضي، ندافع عن أشخاصه ومعاركه، وكأننا نعيد إحياء ما اندثر وانتهى. ما زلنا نقيس حاضرنا بموازين عتيقة، ونفتش عن حلولٍ في أزمنة لم تُدرك مشكلاتنا ولم تعرف مآزقنا. لذلك بقيت النخب السودانية أسيرة جدلٍ عقيم: بين إرث الطائفية من أنصار وختمية، أو بين مقولات ميشيل عفلق ولينين، أكثر مما هي منشغلة ببناء دولة حديثة تستجيب لرهانات الواقع وتطلعات الغد. وما زلنا، إلى اليوم، نلجأ إلى مقولات الآباء والأجداد، نبحث فيها عن مفاتيح مستقبلٍ لم يروه ولم يعرفوه، وكأننا نخشى أن نبتكر بأيدينا ما يليق بزمننا. وهكذا ظللنا أمةً تمشي إلى الأمام ورأسها مشدودٌ إلى الخلف، تتعثر في حاضرها، وتستجدي من الماضي أجوبةً لا يملكها. الماضي ليس شراً كله، ففيه من الخيرات ما يصلح أن يكون وقوداً لمسيرتنا. لكنه لا يمكن أن يكون الحلّ. فهو منارة إرشاد، لا سلسلة قيود. ولعلّ مأساة السودان أنه لم يُحسن إدارة علاقته بالماضي، فصار أسيراً له لا متحرراً به.
حين يرتدي الحاضر أثواب الماضي، يفقد ملامحه ومعناه. وأبرز صورة لذلك هي جدلية المدنية والعسكرية، صراعٌ يتكرر منذ فجر الاستقلال، بذات الأدوات، وذات الوجوه، وذات اللغة، حتى كأننا عالقون في دائرة لا مخرج منها. كل انقلاب عسكري يُقدَّم للناس وكأنه قدرٌ محتوم، وكل انتفاضة شعبية تُختطف سريعاً بأحزابٍ ما زالت تقيس الحاضر بمسطرة الماضي، فلا تُنتج جديداً ولا تفتح أفقاً. وهكذا غدت علاقتنا بالزمن علاقة مريضة. نعيد إنتاج الفشل ذاته جيلاً بعد جيل، ثم ننتظر نتائج مختلفة، كمن يزرع الشوك مترقباً حصاد العنب. إنها أزمة وعي قبل أن تكون أزمة حكم، وأزمة إدراك للزمن قبل أن تكون أزمة مؤسسات.
السؤال الذي نهرب منه دائماً: هل الدين عائق؟ في جوهره، بلا تردّد، لا. فالدين لم يُرسَل ليكون ثِقلاً على كاهل الإنسان، ولا سجناً لوعيه، بل جاء رسالة تحرر من الخوف والعبودية، ومنحازاً للعدالة والرحمة. لكن في واقعنا تحوّل الدين إلى ساحة صراعٍ دنيوي، تتنازع فيها الطوائف والطرق والمذاهب. يكفي أن نتأمل ما أحدثته الخصومات بين السلفيين والمتصوفة، أو ما تثيره المنافسات بين الأئمة ورجال الطرق، حتى نرى كيف غُيّبت الروح الجامعة خلف جدار من الاحتقان. وهكذا أُفرغت الرسالة من مضمونها، فاختُزلت أنوار السماء في نزاعات الأرض، وتحوّل الدين من جسرٍ يربط القلوب ويوحّد المصائر، إلى جدارٍ يفصل بين الناس ويعمّق الانقسام. وهو خطرٌ على الدين نفسه قبل أن يكون خطراً على المجتمع، إذ يُبدَّد المقصد الأعلى. أن يكون الإيمان طاقة بناء لا وقود هدم، وأن يكون الدين رحمةً للعالمين لا لعنةً تتناقلها الألسنة في ساحات الخصومة.
كل أمة تحمل في جوهرها مشكلة حضارية قبل أن تواجه أزمات سياسية أو اقتصادية. وإننا اليوم نعيش هذه المفارقة المرة. شعب لم يرتفع وعيه إلى مستوى أزماته، ولم يتعمّق في فهم عناصر النجاح الحضاري، فصار أسيراً للتبعية. ينتظر الغذاء من الآخرين، والدواء من مصانع غيره، والسلاح من أيدي خصومه، وحتى إشارات المرور التي تنظم حياته ليست من صنعه. فمن يصدق أن الخرطوم، عاصمة بلدٍ عُرف تاريخياً (بسلة غذاء العالم)، تستورد طماطم معلبة، أو مياه غازية، بينما أراضيها خصبة وأنهارها وفيرة؟ وجامعات خرّجت علماء كباراً، لكنها لا تستطيع إنتاج دواء وطني، أو ابتكار تكنولوجيا تخدم شعبها؟ هذه المفارقات ليست مجرد أرقام وإحصاءات، بل هي مرآة لأزمة وعي وإرادة. أزمة تكشف كيف يمكن للأمة أن تمتلك الموارد والقدرات، لكنها تظل عاجزة عن تحويلها إلى قوة حقيقية تبني بها مستقبلها، وتمنح شعبها الاستقلالية الحقيقية.
إن أزماتنا ليست مجرد صراعات سياسية أو حروب دموية، بل خلل أعمق يكمن في وعينا بالزمن والحياة. لقد آن الأوان أن نصالح أنفسنا مع الحاضر، وأن نستضيء بالماضي دون أن يستعبدنا، وأن نعيد النظر في علاقتنا بالدين وبأنفسنا. فالخروج من هذا المأزق يبدأ بتحرير داخلي، تحرير العقول من قيود التبعية، والنفوس من هزيمة الإحساس بالدونية، والحاضر من أسر الماضي. نحتاج إلى مشروع وطني جديد، يزرع في أرضنا بعقول أبنائنا وسواعدهم، وينتج في مصانعنا بأدواتنا، ويبدع في ميادين العلم بمعارفنا. مشروع يعيد صياغة علاقة السودان بذاته أولًا، ثم بالعالم من حوله، قائماً على قيم العدالة والمساواة والحرية، لا على الولاءات الضيقة، ومصوغاً من التعليم والبحث العلمي قاعدة نهضة حقيقية، لا شعارات تُرفع بلا فعل. معركتنا الكبرى ليست في ميادين القتال، ولا في أروقة السياسة وحدها، بل في إعادة تشكيل وعينا الجمعي. فإذا استطعنا ذلك، وأيقنا أن المستقبل يمكن أن يكون أرحب وأجمل، عندها فقط نكون قد بدأنا أولى خطوات التحرر. أما إذا بقينا أسرى ماضٍ منهك، ووعيٍ مريض، وتبعية خانقة، فسنبقى أمةً تستهلك ما يصنعه غيرها، فاقدة البوصلة، غارقة في التيه الحضاري، تنتظر شعاع نور يعيد إليها كرامتها وسيادتها ويوقظ روحها على البناء والتجدد، ستظل أسيرة ذروة العجز.
abudafair@hotmail.com