في زمنٍ تتسابق فيه الشاشات على سرقة انتباهنا، وتعلو فيه الضوضاء على الأصوات العميقة، يُطرح سؤال وجودي مؤلم: أين المعنى؟ لقد أصبح المعنى ذلك النبض العميق الذي يعطي للحياة روحها تائهًا بين ثنايا التفاهة، مسجونًا في زحام الثرثرة، محاصرًا بمنطق الربح السريع، والمحتوى السطحي، والتفاعل اللحظي.
لم يعد العمق مطلوبًا، ولا التأمل محبوبًا. صارت السطحية معيارًا للنجاح، والفراغ الفكري يُلبَس أثواب “الترند”. حتى في الحوارات، تسود الكلمات الفارغة على حساب الأفكار. في الإعلام، يعلو صوت الضجيج فوق الحكمة. في الفن يُستبدل الجمال بالابتذال، وفي الدين، تُختصر القداسة في مظاهر شكلية لا تسمن ولا تغني من روح.
“زمن التفاهة” كما وصفه الكاتب الكندي آلان دونو ليس مجرد وصف ساخر، بل هو تشخيص دقيق لمرحلة مرضية في الحضارة الإنسانية. مرحلة يتحكم فيها أصحاب الولاء لا الكفاءة، ويُكافأ فيها من يُجيد التسويق لا من يزرع المعنى. يتم اقصاء الأصوات النبيلة، وتُهمَّش فيها القضايا العادلة، ويُحتفى بمن يُجيد اللهو والهزل لا من يُجيد البناء.
لكنّ الأهم والأخطر: أن التفاهة لا تُفسد الساحة العامة فحسب، بل تزحف ببطء إلى الروح. فتصير الصلاة عادة بلا خشوع، والقراءة مرورًا بلا فهم، والعلاقات روابط ظاهرية بلا عمق، والخدمة المسيحية أداءً وظيفيًا بلا نار داخلية. تُصبح الحياة مجرد روتين ممل، خالٍ من الرؤية، لأن البوصلة الروحية قد تم فقدانها في دوامة اللا معنى.
فما الحل؟
ربما علينا أن نعيد الإصغاء للصوت الخافت في الداخل وأن نتوقف عن اللهاث وراء كل جديد، ونبحث عن “الجوهري”، عن “الحق”، عن “المقدّس”. أن نمارس الصمت، لا كفراغ، بل كأرض خصبة يتكلم فيها الله. وأن نعود للكتاب المقدس، للخشوع، للمساءلة الصادقة لأنفسنا. أن نحيي في داخلنا شغف البحث، ولهفة اللقاء مع الله، ومذاق العمق
في زمن التفاهة
فهل تختار أن تكون شاهدًا للمعنى، في عالمٍ باع جوهره مقابل فتاتٍ من اللاشيء؟
“فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ. (الأمثال ٤: ٢٣)
راعى الكنيسة الإنجيلية بالعطارين إسكندرية