من المرجح أن تكون عملية إغراق أنفاق غزة هي المحاولة الأخيرة لإسرائيل لتغيير مسار العملية العسكرية وتحقيق أحد أهدافها بعد طوفان الأقصي..فقد جربت كل مافي جعبتها من محاولات وأفكار واستخدمت ماتمتلكه من تكنولوجيا ووسائل عسكرية لكي تحرم المقاومة من حصون الأنفاق التي هي السلاح الأول والحاسم الذي أبقي عليها وعلي زخمها لما يزيد عن شهرين ،وسجلت من خلالها نقاط انتصار متعددة وأطالت زمن الحرب وشقت الصف الإسرائيلي والعالمي ..وأفشلت حملة إسرائيل بامتياز في معركتها المعقدة ولم تقدم دليلا واحدا عن إبطالها فاعلية شبكة الأنفاق الممتدة ل500 كيلومتر متخرجة ومتشعبة ومتعددة الطبقات والأعمار.
ولايعرف أحد في العالم سوي حركة حماس فقط تضاريس هذه الشبكة التي شكلت مدينة تحت الأرض أكبر من مساحة غزة كاملة،ويبدو من خلال تصريحات الأسري الإسرائيليين المفرج عنهم أن الأنفاق ليست مجرد ممرات وطرق محفورة علي مسافات متنوعة تحت الأرض ،بل هي تقريبا مدينة كبيرة صالحة لإعاشة عشرات الأفراد ..لأن الأسري قالوا أنهم كانوا محجوزين في غرف وبالتأكيد كانت إعاشتهم طبيعية بدليل أنهم لم يشكوا من اية معاناة واجهوها خلال الحجز بما في ذلك التغذية والنظافة والرعاية الطبية..
ومع بداية ضخ إسرائيل لمياه البحر في الأنفاق تسابق المحللون إلي الإجابة عن السؤال المهم والكبير ”هل ستستطيع إسرائيل بالفعل إغراق الأنفاق ومايتبعه ذلك من دفع أفراد المقاومة إلي الاندفاع من بطن الأرض إلي سطحها بما يغير كثيرا من طبيعة المعارك ،مع فقدان المقاومة لأهم وسيلة حماية ،الأمر الذي يمنح الجيش الإسرائيلي أفضلية ميدانية حاسمة استنادا إلي التفوق الكمي والنوعي في التسليح والأفراد؟.
حاول المحللون الإجابة لكن باجتهادات وافتراضات لأنه لاتوجد تقارير من أجهزة مخابرات أو وسائل إعلام أو مراكز تحليل تعطي معلومات عن حقائق الأنفاق،لتبقي سرا وشغفا للعالم كله الذي يترقب نتائج المحاولة ..وهناك ترقب استثنائي لدي الأسرائيليين قادة وشعبا لأنهم في هذه المرحلة بالتحديد لم يعودوا يملكون رفاهية الإنتظار وتطويل أمد الحرب ،خاصة بعد أن فاجأ الرئيس الأمريكي بايدن العالم وخاصة إسرائيل بالكشف العلني عن الخلاف الحاد بين أمريكا وإسرائيل فيما يخص الحرب الدائرة وفيما يخص أيضا الغضب من رفض إسرائيل للحلول المعتدلة بعد انتهاء الحرب وبالتحديد رفض حل الدولتين وإدارة قطاع غزة.
وماقاله بايدن وأمام جمهور يهودي يحمل معلومات وليس تحليلات ولا اجتهادات ..فالأنتقاد كان مباشرا ورفض ماتقوله إسرائيل كان واضحا ،وكراهية تصرفات نتنياهو كانت مباشرة…والأهم أن هذه المكاشفة الأولي من نوعها تترجم فعلا المأزق الإسرائيلي الأمريكي في غزة وانتصار المقاومة تكتيكيا واستراتيجيا وليس استراتيجيا فقط ،بما يدفع تحالف العدوان إلي المراجعة السريعة ، وينقل عن الغرب الشعور الحقيقي لأول مرة بأن حلول القضية الفلسطينية ليست سهلة ولن تكون في يدهم فقط ..بل أصبح الفلسطينيون رقما صعبا في معادلات الحلول المقترحة…وبالطبع كل هذا سترتفع قيمته وسيظل ثابتا لايتزعزع إذا فشلت محاولة إسرائيل استرداد المبادرة في الميدان بالنجاح في اغراق الأنفاق..ونتمناها أن تفشل.
ونعود ألي شبكة الأنفاق وننقل عن الخبراء العسكريين اجتهاداتهم..وهم يظنون أولا أن حركة حماس قد توقعت عند تنفيذ الشبكة أنها قد تتعرض للإغراق ،فحرصوا أن يكون التصميم الهندسي مقاوما لذلك..وأن هذا التصميم الهندسي حرص أيضا علي تعقيد الشبكة لتكون عنكبوتية وليست مفتوحة علي بعضها وكأنها مجري مائي ولا ينطبق عليها نظرية الأواني المستطرقة ..فهي غير متصلة بل عبارة عن وحدات منفصلة تتنوع فيها أعماق الحفر مابين ٤٠ و٨٠ مترا تحت الأرض..وبصرف النظر عن هذه الإجتهادات تبقي الحقيقة بأن المقاومة ليست رقما صعبا فقط بل رقما غامضا يتسع لمساحة واسعة من المفاجآت..