عاجل
الثلاثاء. يوليو 29th, 2025

ماذا لو لم يعدِّل  البرلمان قانون الإيجــار القديم؟!

admin2023admin2023 29, مايو 2025 17:05:54

كثر الجدل مؤخرًا، وتحديدّا منذ صدور حكم المحكمة الدستورية العليا في نوفمبر2024م، بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادتَين (1، 2) من القانون رقم 136 لسنة 1981م، بشأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فيما تضمنتاه من ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السُكنى، اعتبارًا من تاريخ العمل بهذا القانون.

ومكمن الجدل فيما يتعلق بأثر هذا الحكم، إذا دخل حيز النفاذ من اليوم التالي لانفضاض دور الانعقاد الحالي لمجلس النواب، بينما لم يتمكن الأخير- جدلاً، من إقرار مشروع القانون المقدَّم من الحكومة في هذا الشأن، والذي أثير الجدل حوله واحتدم بين المعنيين من أطراف العلاقات الإيجارية الاستثنائية، وكذا في الأوساط المجتمعية والإعلامية وغيرها، وكثرت فيه الرؤى والأقاويل.

وقبيل البت في الرأي الدستوري في هذه المسألة، أقول بأن الحكومة القائمة لم تقترف إثمًا في تصدير هذه المعضلة القائمة منذ عدة عقود، بل فُرض عليها التصدي لها وقد صدرتها حكومات عديدة سابقة؛ فالأزمة قائمة منذ صدور القوانين الاستثنائية المنظمة للعلاقات الإيجارية المعروفة إعلاميًا بالإيجار القديم (في عامي 1977م و1981م)، وفي المقابل، وحتى لا نلقي باللوم على الحكومة أو البرلمان القائمين وقت صدور هذين القانونيين، يجدر التنويه إلى أن صعوبة الظروف التي جابهتها الدول وقتئذ هي التي فرضت إصدار هذه القوانين، بل فرضت تأجيل التصدي بحلول نهائية لهذه الإشكالية من حكومة لأخرى، حتى صدر حكم الدستورية العليا آنف الذكر.

ولكي لا يتبادر إلى الأذهان أن هذه الإشكالية قد أعيد تصديرها بسبب حكم المحكمة الدستورية العليا- سالف الذكر، أبادر إلى القول بأن المحكمة لم تفعل سوى أنها قضت بعدم دستورية تثبيت القيمة الإيجارية، ولم تُلزم البرلمان بضرورة التدخل لتعديل النص المقضي بعدم دستوريته- من ناحية أخرى، إلا أن يقدِّر المشرع ذاته أن تدخله لإعادة تنظيم هذه المسألة- مسألة القيمة الإيجارية، يمثل مصلحة عامة جديرة بالاعتبار.

بل إن المحكمة قد أقرت مبدأ دستوريًا غاية في الأهمية- طالما نادى جمهور فقه القانون الدستوري بإقراره منذ عدة عقود، وهو مبدأ أو معيار “المدة المعقولة”، ذلك الذي ينصرف إلى ضرورة تدخل المحكمة لتقويم اعوجاج المسلك التشريعي في مسألة ما عقب مضي فترة زمنية كافية من تمكين البرلمان من إعادة النظر فيها ثانيةً. وقد أقرت المحكمة هذا المبدأ من باب التكامل مع البرلمان في هذا الشأن، ولكي لا تخل بمبدأ الأمن القانوني في أحد أهم تطبيقاته المتمثل في احترام الثقة المشروعة أو التوقع المشرع في معايير الدستورية- هذا المبدأ الذي أصلنا دراسته الأولى في مصر في دراستنا المعنونة بـ”مبدأ الأمن القانوني كأساس لعمل القاضي الدستوري”، والمنشورة قبل عشر سنوات أو يزيد، فأرجأت المحكمة إعمال أثر حكمها إلى حين تدخل البرلمان لإعادة تنظيم هذه المسألة خلال ثمانية أشهر- هي مدة انتهاء دور الانعقاد الأخير من الفصل التشريعي الثاني لمجلس النواب، وبذلك تكون المحكمة قد نأت بالمشرع والمستأجرين أيضًا عن المباغتة التي تنافي الأمن القانوني في مجال الدستورية.

بل أقرت المحكمة مبدأً أكثر جوهرية- كنا أول من أصل له في مصرنا العريقة في الدراسة المشار إليها آنفًا، وهو إعمال “الأثر المستقبل للحكم الصادر بعدم الدستورية”، إذ أرجأت المحكمة إعمال مقتضى حكمها إلى أقرب أجلين لاحقين على الحكم- أولهما: أن يتدخل البرلمان لتعديل نص المادة المقضي بعدم دستوريه، وثانيهما: أن ينتهي دور الانعقاد الحالي للمجلس من دون أن يتمكن من إقرار تشريع ينظم هذه المسألة.

وعلى قدر تشرفنا بأن تنزل المحكمة الأعرق في مجال الدستورية عربيًا وإفريقيًا، عند ما كرسنا له من مباديء دستورية في دراساتنا، فإن ذلك يلقي على عاتقنا بظلال المسئولية عن إبداء آراء علمية حصيفة في هذا الشأن؛ لينطلق منها المشرع في معالجة هذه المسألة الدقيقة التي تتنازعها اعتبارات عديدة- اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وهو ما عرضنا له في مقالة سبق نشرها.

أما مقالتي هذه فتُعنى من الأساس ببيان الأثر المترتب على حكم المحكمة الدستورية في حالة سريانه، في الفرض الذي لا يتمكن فيه البرلمان، من تعديل النص المقضي بعدم دستوريته؟

في هذا الفرض الذي لا نتوقع حدوثه- إذ يعكف البرلمان- ممثلاً في مجلس النواب، على مناقشة المشروع المقدم من الحكومة في الوقت الذي أسطِّر فيه مقالتي هذه، وأظنه منتهٍ إلى حل توفيقي مناسب لهذه المسألة، بعدما أطال النفس وأفاض النقاش المجتمعي، بل والإعلامي أيضًا، حول حلولها المقترحة، فضلاً عن حرصه على مشاركة الأطراف الفاعلين أنفسهم من المستأجرين والملاك.

في هذا الفرض- فرض امتناعه أو عدم تمكنه من إقرار مشروع التعديل أو امتناع السيد رئيس الجمهورية عن التصديق عليه عقب إقراره، سنكون أمام حالة واقعية يتعين على محاكم الموضوع حسمها بما لها من ولاية في ذلك بناءً على ما يُرفع إليها من دعاوى من قبل الملاك أو خلفهم العام، وحالئذ ستتولى محاكم الموضوع تقدير القيمة الإيجارية على ضوء معطيات الواقع المحيط بكل حالة على حده، بناءً على حالة الوحدة المؤجرة، وظروف المالك، وظروف المستأجر. وبذلك نتلافى إشكالية تباين ظروف المستأجرين- أولئك الذين منهم أولو خصاصة حقيقية، ومنهم من يستغل قوة العقد ليغمط الملاك حقوقهم، ونتلافى إشكالية تباين حالة العقارات المؤجرة من حيث القدم والقابلية للاستعمال، ومساحاتها، ومدة استئجارها، ونتلافى إشكالية تباين الأوضاع الاقتصادية للملاك ومدى قدرتهم على تحمل المرحلة الانتقالية في تقدير الحدين الأدنى والأقصى للقيمة الإيجارية اللذين نطالب المشرع العادي بتقريرهما، وترك أمر تقدير الأجرة لمحكمة الموضوع، تقدرها على ضوء ما ذُكر من اعتبارات.

وعليه، يتسنى القول بأن امتناع المشرع العادي، أو عدم توفقه في إقرار مشروع التعديل المقترح من الحكومة، وإن كان يترك فراغًا تشريعيًا فيما يتعلق بتحديد القيمة الإيجارية- تشريعيًا، فإنه يفسح المجال أمام محاكم الموضوع لتباشر دورها في تقدير القيمة الإيجارية “المعقولة” على ضوء معطيات الواقع لكل حالة إيجارية على حده. وإن كنا نؤثر من جانبنا أن يتدخل المشرع لوضع حدين أدنى وأقصى للقيمة الإيجارية يتراوح بينهما تقدير محكمة الموضوع، مصحوبين بزيادة تدريجية يكون من شأنها حمل المستأجرين على إخلاء العقارات التي يشغلونها خلال فترة معينة- بفعل تصاعد القيمة الإيجارية حتى تصل إلى مستوى القيمة السوقية، أو ارتضائهم البقاء في علائقهم الإيجارية بالقيمة السوقية، أيهما أفضل بالنسبة للمستأجر.

ولا نقول هنا بتدخل المشرع لإنهاء العلاقات الإيجارية بنص تشريعي- كما يقترح البعض، بل نقول بأن تدخل المشرع لتحديد حدين أدنى وأقصى يتراوح بينهما تقدير محكمة الموضوع تبعًا لملابسات كل حالة على حده، مع الارتفاع التدريجي بنسبة هذين الحدين، خلال فترة معينة يقدرها المشرع، سيكون من شأن هذا النهج تحقق أحد أمرين، كلاهما يسهم مباشرةً في إنهاء الجدل حول قضية الإيجار القديم؛ أولهما: أن يؤدي تصاعد القيمة الإيجارية ببعض المستأجرين إلى البحث عن إيجارات أخرى، ما دام أن القيمة التي يدفعونها قد تماثل قيمًا إيجارية في أماكن أخرى جديدة، وفي هذا الفرض يكون المستأجر هو من ترك الإيجار القديم اختيارًا- من الناحية القانونية بالطبع، وثانيهما: أن يقبل بعض المستأجرين بدفع القيمة الإيجارية التي تعادل القيمة السوقية للإيجار، وفي هذا الفرض لا تكون لدى الملاك إشكالية حقيقية، وتنتفي مطالباتهم بإخراج شاغلي عقاراتهم.

 

البروفيسور/ حسين المقداد أستاذ ورئيس قسم القانون الدستوري  بجامعة حلوان

 


#أزمة الإيجار القديم #حسين المقداد #قانون الإيجار

اخبار مرتبطة