في مشهد دبلوماسي غير معتاد، شنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي هجومًا عنيفًا على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد تصريحاته الأخيرة التي أعلن فيها نية فرنسا الاعتراف بدولة فلسطينية خلال اجتماع الأمم المتحدة المرتقب في سبتمبر.
ما قاله ماكرون ولم تغفره تل أبيب:
ماكرون لم يكتف بالإعلان عن خطوة الاعتراف، بل فتح الباب أمام عقوبات أوروبية محتملة ضد إسرائيل بسبب المجاعة في غزة، وهو ما اعتبرته إسرائيل تصعيدًا غير مسبوق من دولة كانت تُصنف ضمن “الداعمين التقليديين”.
ورغم أن ماكرون لم يذكر شروطًا حقيقية لدولة فلسطينية ذات سيادة، إلا أن الردود الإسرائيلية جاءت هستيرية وعنيفة:
وزير الخارجية الإسرائيلي اتهمه بـ”شن حملة صليبية ضد الدولة اليهودية”.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قال إن “قيام دولة فلسطينية هو تدمير لإسرائيل”، واعتبر أن فرنسا “تكافئ الإرهاب”.
وزير المالية المتطرف سموتريتش دعا إلى إعلان فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
أما وزير الدفاع يوآف غالانت، فوصف تصريحات ماكرون بأنها “تهديد مباشر للأمن القومي الإسرائيلي”.
لماذا هذا الغضب الإسرائيلي؟
المثير في الأمر، أن الدولة الفلسطينية التي ألمح إليها ماكرون ليست دولة ذات سيادة حقيقية، بل أقرب لنموذج “كوسوفو”:
بلا جيش.
بلا مقاومة.
تعترف بإسرائيل.
تتنازل عن حق العودة.
لا تطالب بإنهاء الاحتلال.
أي أن الحديث يدور عن دولة شكلية لا تهدد إسرائيل فعليًا، ومع ذلك جاء الهجوم الإسرائيلي كأنها أُعلنت الحرب!
فرنسا.. شريك الأمس في الحرب على غزة
من المهم التذكير أن فرنسا كانت واحدة من أبرز الداعمين لإسرائيل بعد 7 أكتوبر:
لم توقف شحنات السلاح.
تبنّت خطاب “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
منعت المظاهرات المؤيدة لفلسطين.
وصفت رفع العلم الفلسطيني بأنه تهديد للأمن العام.
ووقفت ضد محاولات إدانة إسرائيل في المحافل الدولية.
الإعلام الفرنسي الرسمي، في كثير من الأحيان، بدا وكأنه ناطق باسم الحكومة الإسرائيلية.
فما الذي تغيّر؟
الجواب: الرأي العام الأوروبي.
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، وخصوصًا بعد الصور الصادمة من المجازر، بدأ الرأي العام الأوروبي ينقلب تدريجيًا:
مظاهرات يومية من الشباب.
ضغوط طلابية وأكاديمية.
أسئلة أخلاقية عن تناقض الغرب مع القيم التي تبناها بعد الحرب العالمية الثانية: حقوق الإنسان، رفض الإبادة، ورفض الفاشية.
فرنسا، كغيرها من الدول الأوروبية، أصبحت في مواجهة أزمة أخلاقية وسياسية أمام شعوبها.
وهكذا جاء قرار ماكرون كنوع من ترميم السمعة، أو محاولة لإعادة التوازن السياسي أمام موجات الغضب الداخلي والخارجي.
إسرائيل لا تقبل حتى “الدولة الشكلية”
وربما هذه هي الخلاصة الأهم في هذه الأزمة: إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، لا واقعية ولا رمزية، ولا حتى شكلية. هي لا تقبل إلا بسيطرة كاملة، وتتعامل مع أي اعتراف بفلسطين – ولو رمزي – على أنه تهديد وجودي.
صراع على الوجود.. لا على حدود
المفارقة الصادمة أن إسرائيل لا تواجه خطرًا حقيقيًا من اعتراف فرنسا، لكنها تخشى ما هو أعمق:
أن يتحول الاعتراف إلى سابقة أوروبية، وأن تبدأ صورة إسرائيل “كدولة ضحية” في الانهيار تدريجيًا.
في النهاية، يتضح أن الصراع لم يعد على حدود 1967، ولا على سلاح المقاومة،
بل هو صراع على وجود الشعب الفلسطيني نفسه.
على الرواية.
على الحق.
وعلى الذاكرة.