د.مجدى أبو الخير يكتب :من أين تأتي هذه الصور؟!

أرادت إسرائيل، فيما أرادته، من خلال نشرها فيديوهاتٍ لعناصرها من الموساد داخل إيران وهم يقومون بعملياتهم العسكرية فيها إيصال رسالة ليس لإيران وحدها وإنما لجميع دول المنطقة، وحتى لغيرها، مفادها أنها موجودة فعلًا على أراضيها، بعناصرها من الموساد، وعملائها من داخل تلك البلدان، وأنها، ولشهور وحتى سنوات، تعمل في ثقةٍ وهدوءٍ وأريحيةٍ، دون منغّصاتٍ؛ كل ذلك بُغية بثّ الرعب فيها، وإصابتها بالذعر والخوف والهلع فيتملكها عندئذ الوهن واليأس والإحباط فتذعن لها وترضخ وتستسلم دون أدنى مقاومة منها. غير أن الأمر الوحيد الذي لم تعمل له إسرائيل حسابه، وأصابها في مقتل إستراتيجيًّا، ويبعث فينا الأمل، هو استعادة إيران توازنها في ساعاتٍ معدودة، وأنها استطاعة وفي دقةٍ متناهية أن تصيبها إصاباتٍ مباشرة، عجزت عن التصدي لها دفاعاتُها، ومقلاعها وقببها، ودفاعاتُ حلفائها.
استطاعت إيران أن تعدل الكفة، ولو قليلًا، وتعدل معها مزاجنا وثقتنا، وأن تجعلنا ومع متابعة الأخبار، ولأول مرة، نسأل وندقق: من أين تأتي هذه الصور؟! بعد أن اعتادنا ولعقودٍ أن تكون تلك المشاهد حصرًا في بلداننا، لاسيما فلسطين. لأول مرة نرى الداخل الإسرائيلي، نرى شوارع تل أبيب وحيفا وغيرها، نرى المنازل والمحالّ التجارية والكافيهات والسيارات، نرى الأشجار والأرض والسماء، نرى المارة في الشوارع، نرى اليهود عن قرب، نتأمل ملامحهم، نرقب مشاعرهم، نسمعهم، ننصت لهم ولأنفاسهم، ودقات قلوبهم. نرصد فزعهم ورعبهم الحقيقي ودموعهم. لأول مرةٍ، نراهم على أسرّة الإسعاف مضرجين في دمائهم. لأول مرة نرى عمارات منكوبة، وسيارات مهشمة. لأول مرةٍ، نرى رجال الدفاع المدني وكلابهم المدربة باحثين تحت الركام عن المفقودين، الأحياء والأموات. لأول مرة نرى داخل إسرائيل ولم نكُ قبلُ نراه، لأول مرةٍ، نرى بعضًا مما ألفناه في طول فلسطين وعرضها، وفي لبنان واليمن وغيرها على أيدي اليهود.
لكن، وعلى أية حال، فالدروس المستفادة من تلك الأحداث الحاصلة لا حصر لها، والفطِنُ فقط مَن يعييها جيدًا، ويعمل من فوره عليها، وهنيئًا له إن كان قد احتاط لنفسه، وعمل عليها فعلًا قبلها. غير أن أبلغ تلك الدروس، والتي أدركناها يقينًا نحن الشعوب، ولن يثنينا عنها أحدٌ بعد الآن، ووقع فيها هذا العدو المتغطرس المتعجرف، أنه يمكن اختراقه، وبلوغ قلبه، وعقر داره، وحتى مرحاضه وغرفة نومه. وأن تلك الهالة التي رسمها لنفسه، وصدقناه نحن، محض خيال وسراب. وأن الخوف منه كان -وعن قصدٍ- بداخلنا نحن. الدرس المستفاد، ووقع فيه هذا الجبان البربري هو كسرُنا لحاجز الخوف هذا، مهما عمل هو ومَن وراءه على زرعه فينا ثانية.
الدرس المستفاد، أنه يتأكد لنا يومًا بعد آخر، أن هذا الغربَ كله، وعند الجدّ والخطر، لن تراهم إلا معًا، صفًّا واحدًا، وفي خندقٍ واحد ضدّنا. الدرس المستفاد، أننا ومهما بلغت خلافاتُنا، والتي عمل عليها هؤلاء الصهاينة جميعهم جهدهم، فلن يُنجّينا ويحفظ علينا أمننا وظهورنا وبلادنا ووجودنا إلا تكاتفنا وتكافلنا معًا، وأن نكون لله والوطن صفًّا واحدًا، كالبنيان المرصوص. الدرس المستفاد لنا نحن الشعب العربي أنه لا عذر بعد اليوم لأحدٍ أمامنا. فلأول مرة، نرى داخل إسرائيل أرضًا وسماءً، وكلنا شوقٌ وحنينٌ أنها كانت دهرًا لنا.