الخميس. سبتمبر 11th, 2025

أمير عادل يكتب :قطع اللحم!

العالم الآنالعالم الآن 20, أغسطس 2025 13:08:16

كل جرح في الجسد يلتئم ببطء، أما جرح الروح فإنه ينزف بلا دم، ويجعل صاحبه يمشي حيًّا كالميت. والناس يظنون أن الحروب تُدار بالمدافع، بينما أخطرها يبدأ بصرخة، أو سبّة، أو كلمة حادة أشبه بطلقة. إنها شعلةٌ لا تخرج من الفرن بل من اللسان، فتشتعل النار في البيت لا بالخشب، بل بالحوار!

ثم يأتي السكين، لا ليقطع الخبز، بل ليقطع الكلمة. ولا لتحسين الحديث، بل لإنهائه؛ فيخسر الطرفان معركة لم يكن فيها غالب ولا مغلوب، لأن النصر في الخيانة دائمًا يساوي هزيمة مزدوجة.

ليس الحديث عن تقطيع اللحم على مائدة العرس، بل عن ذلك المشهد الأكثر دموية حين يصير الاثنان جسدًا واحدًا، ثم يُقسمان نصفين كما تُقسم الذبيحة. ليس بالخيانة فقط بل – ويا للسخرية! – بالتهديد بالخيانة. أجل، التهديد وحده يكفي ليغدو السكين مشرطًا يشق الحياة نصفين.

فالتهديد حين يخرج من الفم، لم يتبخر في الهواء، بل يمتصه الجسد الآخر كما يتسلل السمّ في الدم. عندها ترتعش الحياة للحظة، لا كما ترتعش أوراق الشجر بالنسيم، بل كما ترتعش المصابيح عند انقطاع التيار: ومضات تتلاشى وتعود بلا طعم، بل بطعم العلقم. وكأن الكلمات – تلك الطلقات اللامرئية – اخترقت النفس والمخاخ والمفاصل؛ لا لتبني، بل لتفترس.

فالخيانة ليست فقط أن يُنكَر العهد، بل أن يتحول مجرد التهديد إلى سيفٍ مُسلَّط. وكأن الزواج الذي بُني على قسم الوفاء، انقلب ليصبح تعهّدًا بالولاء للخيانة! وهكذا، لا تُقطع اللحوم بسكاكين المطابخ، بل تُشرَّح الأرواح بشفرات الكلمات.

من يخون في الخفاء يشبه اللص، يَسرق وهو مُرتعش، مدرك أنه يرتكب جريمة. أما من يرفع الخيانة علنًا كسلاح، فهو لا يكتفي بالقتل، بل يُطالبك بالتصفيق على طعنته! هناك فرق بين مَن يذنب في الظلام خجلًا من ضميره، وبين مَن يُحوِّل الخيانة إلى حقٍّ دستوري في وضح النهار.

قديماً كان الناس يتحاشون الخائن المستتر، واليوم يبدو أنهم يختبرون من لا يرفع الخيانة علنًا في وجه شريك حياته كأنه يمتحن إخلاصه! يا لمفارقة عصرٍ صار فيه الصمت عن الوفاء فضيلةً نادرة. والحديث عن الخيانة رذيلة مطلوبة!

إن الألم الحقيقي ليس حين تنغرس السكين في الجسد، بل حين تمزق الروح. لأن ما يُترك بعدها ليس جرحًا يلتئم، بل مستقبلًا يتفسخ بالشكوك، وحياةً تُتخم بالريبة، وبيتًا يُقام على أرضٍ مشقوقة بالشكّ لا تصلح للبناء.

لكن السؤال الذي يبقى يئن: كيف يلتئم الجرح؟ كيف يحدث الغفران؟ كيف تعود الثقة؟ هل بالاعتذار؟ أم بالانفصال؟ لا هذا ولا ذاك يشفيان قسم الولاء للخيانة.

يبقى الإنجيل هو الحل، والمسيح هو الدرع. ومن قُطع لحمه، أو طُعن بتهديد الخيانة، ليس عليه أن يغمض عينه عن قاطع لحمه، ولا أن يختبئ في دور الضحية؛ بل أن يرفع عينه إلى الصليب. هناك يكتشف أن القاتل ليس الآخر فقط، بل هو نفسه: هو الجندي الروماني الذي قطع لحم المسيح. لقد وعدناه بالوفاء آلاف المرات، وما زلنا نخونه. هتفنا له بالحب، ثم بصقنا عليه بالكراهية. رفضناه، ففتح لنا ذراعيه. كرهناه، فأحبنا.

هنا تكمن المفارقة: وحده الإله الذي طُعن بالخيانة هو القادر أن يشفي جرح الخيانة. الذي بيع بثمن بخس، هو وحده القادر أن يسترد بأغلى ثمن. الذي قُتل ظلمًا، هو وحده القادر أن يهب الحياة. أما من يتوهم أن طعن الروح يمكن علاجه بجلسة علاج نفسي، أو بورقة طلاق أنيقة، فهو كمن يحاول أن يوقف نزيفًا بالماسكارا! ولا عزاء لمن نالتهم السكين وهم بعيدون عنه؛ لأنهم سيظلون يفتشون عن لحمٍ سليم في جثةٍ قد شُرحت حتى العظم.

إنه لا يداويه بمسكنات النسيان، بل يحوله إلى ندبة مجيدة، علامة على قيامة جديدة. فمن يتكئ على المسيح لا يكتفي بالشفاء من الطعنات، بل ينهض ليحيا بقلبٍ جديد، يعرف أن الخيانة لم تكن آخر كلمة، بل كانت آخر خدعة قبل الانتصار.

نداء لكل من قُطع لحمه: لا تيأس، فالصليب يعرف وجعك، والقيامة تعدك بأن الألم ليس الكلمة الأخيرة.

ونداء لكل من قطع لحم غيره: لا تهرب، فالصليب يفضح خيانتك، لكنه أيضًا يفتح لك باب الغفران.

فالرجاء لا يقف عند المصلوب، ولا يتوقف عند الخائن، بل يتسع للجميع: للجارح والمجروح، للناكر والمرفوض، للضحية والجلاد معًا. ولهذا، فحتى الجرح يمكن أن يصبح شهادة على قوة نعمته، وحتى الخيانة يمكن أن تُزرع من جديد كحب. والأيادي التي طعنت يمكن أن تُمسح وتُطهَّر لتصير أيادي محب. لأن المسيح الذي حمل لحمنا المجروح، قادر أن يشفي كل لحم جُرح أو جَرح.

مهندس معمارى ومؤلف


#أمير عادل يكتب :قطع اللحم! #العالم الآن الإخبارى alalamalan #العالم الآن. قناة العالم #جمهورية مصر العربية

اخبار مرتبطة